د. محمد علي شاحوذ / استاذ جامعي
منذ نعومة اظفاري نشأت صداقة وطيدة بيني وبينالصحف, فلا أنام في سريري أو يغمض لي جفن الا وبينيدي صحيفة اطالعها, وقد أدمنت مبكرا رائحة اوراقها كأنهارائحة خبز تنور حار وقت الغروب, وقد كنت مولعا باقتناءمختلف الصحف اليومية في التسعينيات مثل صحيفتاالجمهورية والثورة, وفي احدى المرات وقد كنت على اعتابالمرحلة الثانوية, نزلت ماشيا كعادتي من بيتنا في حيالاسكان باتجاه مركز مدينة الرمادي لأحصل على حصتيمن الصحف من المكتبة التي تقبع في ناصية شارع السينماالعتيد, فهذه الناصية التي تمثل قلب المدينة ولها مكانتهاالأثيرة عند الناس, حيث لم يكن في المدينة سوى شارعين اوثلاثة لا اكثر!!, وقفت أمام الصحف اتأمل عناوينها, واقرأبنهم كل ما تقع عليه عيناي, وقبل أن أدفع لصاحب المكتبةثمن الصحف سمعت صوتا نسائيا خافتا يقول (اعرفحظك وشوف مستقبلك من خطوط ايدك), تتبعت مصدرالصوت, فإذا هي عجوز مسنة تسند ظهرها الى حائطالمكتبة كانت تعرض على المارة ان تقرأ لهم الطالع مقابلمبلغ زهيد.
لم استطع مقاومة رغبتي في خوض التجربة, تقربت منهابعد ان كاد يقتلني الفضول , وبدون تردد أخرجت منجيبي المائة فلس التي وهبها لي اخي مهدي الذي علمنيحب الكتب والصحف, وناولتها للعرافة لتقرأ طالعي, وبسرعةأخذت كف يدي وبسطتها بين يديها الذابلتين و راحت تمعنالنظر في خطوط يدي المتعرجة, وبعد ان سحبت نفسا عميقاقالت🙁 أنت محظوظ يا ولد, فطالعك يبشر بالكثير!!, تحمست أكثر, فبادرتها : قولي ماذا ترين؟,… ( أرى فييدكِ قلما, وفلوسا كثيرة, وأرى نساء كثيرات جميلات تدورفي فلكك), وهنا اعترتني غبطة لا اعرف سببها, وتابعت 🙁 أرى في خطوط كفكِ شيئا غريبا!!), وهنا استنفرت كلحواسي وتلهفت لسماع بقية كلامها, ( أراك تقف وسط حقلاخضر شاسع, ومن حولك تمرح قطعان من الخيولالشهباء) ثم صمتت برهة, واكملت (حينما تكبر عليك انتخبرني بصدق نبوءتي), ووعدتها أن افعل.
قفلت راجعا دون ان احصل على ضالتي من الصحف, وتحججت (لمهدي) الذي كان ينتظرني أن الصحف لم تصلاليوم الى المكتبة, وأحسست بالحرج ولم اخبره الحقيقة, فقدتحصلت بفلوس الصحف على نبوءة العرافة الغريبة التي تتزاحم فيها مفردات ليست مترابطة, قلم, ونساء, وفلوس, وخيول, وكأنني أقف امام لوحة سريالية!!.
مرت السنوات مسرعة, ولكنها لم تستطع محو تلك النبوءة منذاكرتي , فقد بقي صوت تلك العرافة يرن في أذني, وكلماوقعت عيني على خطوط كفي تذكرت كل حرف قالته.
واليوم وبعد انقضاء ما يربو على الثلاثين عاما وجدت قدمايودون وعي مني تجراني لشارع السينما ذاته, وراحت عينايتستوعبان بنظرات خاطفة كل شبر في المكان, غير أنني لماجد اثرا للمكتبة, تلك التي كانت من ابرز معالم السوق, غيران الشارع وناصيته بقيت كما هي تحكي تأريخ مدينة مرتبمنعطفات كبيرة وخطيرة, حينما شهدت الرمادي معاركاطاحنة ضد قوات الاحتلال الامريكي وانتهت بسقوطها بيد(داعش) بعد ان حاصرها التنظيم لسنة ونصف فتعرضتلدمار كبير, فلم يسلم بيت او شارع فيها الا وأصابه شئمن الدمار, ولكنها عادت من جديد واستعادت عافيتها رغمكل ما مرت به من مآس ومحن.
وقفت متأملا في المكان وتسمرت قدماي فوق ارض الناصيةمستذكرا كل كلمة قالتها لي العرافة, ولكم تمنيت أن اجدهالأخبرها ان كل ما جاء في نبوءتها قد تحقق وصار واقعاباستثناء توقعها فيما يخص الخيول الشهباء والحقلالاخضر, اذ لما كبرت وجدت نفسي محاطا بقطيع من الغنم, فأينما أولي وجهي فثمة نعجة أو خروف اجده بوجهي !!, غير أن الاكثر ايلاما والأشد حزنا بعد كل هذه السنين أن(مهدي) لم يعد ينتظرني كعادته حينما أعود له بالصحف !!.