سعادة السفير وصحن الكرزات

سعادة السفير وصحن الكرزات

عام 1821 م خرج السفير البريطاني برحلة على الخيل مع
زوجته وحاشية من موظفيه من بغداد الى كركوك ، في
رحلته هذه التي دامت قرابة الشهرين مرَّ على جميع المدن
والقرى صغيرها وكبيرها ، يحل في مضايف القبائل ويدوّن
اسماء العشائر ، اعدادها تفصيا رجال ونساء واطفال، مذاهبها
سُنة ام شيعة ، مشاكلها وحوادثها مع العشائر الاخرى ،
زراعتها محاصيلها عدد النخيل ، انواع الحيوانات واعدادها ،
كل صغيرة وكبيرة ، يجيد العربية ويعرف عادات وتقاليد اهل
البلد .. وبالتأكيد يجرى هذا ايضاً مع مناطق الجنوب .. هذا
جهد السفير قبل مايقرب من قرنين من الزمان ، يمتلك من
المعلومات والتقارير والتحليل لوضع البلد الذي يشغل هذا
المنصب فيه مالايملكه رئيس الدولة ، بهذا العمل الدؤوب
وبإخاص رجالها سادت الدول .. كانت هذه آخر فقرة قرأتها
في الكتاب الذي صاحبني كعادتي كي اقتل او استفيد من
الوقت في الطائرة ، لم تكن الرحلة الليلية من دبي الى
سيؤول مريحة ، اثنا عشر ساعة طيران مرهقة على الخطوط
الكورية في الدرجة السياحية رغم ان الطائرات التي تستخدم
لهكذا مسافات طويلة تكون كبيرة ومقاعدها والمسافات بينها
واسعة نوعا ما ، لكن طول الوقت يجعل الامر مماً لاينفع معه
قراءة كتاب او مشاهدة فلم في وضع قلق بين اليقضة والنوم
، هدف الرحلة كان عقد اتفاق مع شركة انشائية كورية رصينة
لنقل الخبرات ووضعها في مساحة الأمل المزمع الحدوث ، كان
ذلك عام 2007 حيث الطموح مازال بأشده والحماس يتفتق
من الجوانب كان الحُلُمُ جمياً كبيراً عالياً أعلى من شواهق
هونغ كونغ واجمل من كل جسور سيؤول..
سيؤول او سول مدينة عملاقة يشقها نهر هان ، تصطف
الابنية الرائعة على جرف شوارعها وتحفها الخضرة والورود
بكثافة واضحة شأنها شأن أغلب مُدن شرق آسيا، الابتسامة
لاتفارق وجوه اهلها وهم يمأون الشوارع صباحاً مسرعين
ببدلات رسمية وقمصان بيضاء وأربطة انيقة وحقائب
الحاسوب معلقة على اكتافهم ، فندق هاملتون كان مقر اقامتنا
حيث يتوسط المدينة القديمة ، في احدى الصباحات وكنا
مانزال في الفندق دوّى صوت متقطع عال كأنه صوت صفّارة
إنذار ، ذُعرنا !! ماهذا؟ نحن عراقيون ، خبراء بهذه الاصوات
ألِفنا رُعبها سنين طويلة ، تجاهلنا الامر ونزلنا الى المطعم
بعد نصف ساعة دوّىالصوت ثانية ولكن متصل هذه المرة
، نعم هي صفارة انذار حقيقية إذن ، اتصلت بالسفارة اجابني
الموظف علي الكوري ) كوريٌ عراقي ، طليق باللهجة العراقية
والده مهندس كوري وامه عراقية تزوّجا حين كان والده يعمل
في العراق (:

  • ماهذا علي ؟ صفّارة انذار ؟؟
    اجاب ضاحكاً بصوت عال..
  • نعم تعرّضنا لهجوم كوري شمالي..
  • علي يمعود ما بينا حيل ، قل ماذا حدث ؟
  • الحرب بين الكوريتين رسمياً تعتبر مستمرة منذ الحرب
    العالمية وحتى اليوم والاحتكاكات موجودة وصفارة الانذار امر
    طبيعيهنا.. لاتقلقوا..
    اتممنا الاتفاق مع الشركة الكورية وأخذناهُ سفارتنا في سول
    ، قابلنا السفير ، وقور في نهاية الخمسينات من العمر ، صوته
    عالٍ أجش يعطيك انطباعاً انه اكبر مما هو ، استقبلنا في
    مكتبه الواسع بترحاب ظاهر ، عرّفناه بأنفسنا وبالمهمة التي
    قصدنا السفارة لاجلها وهي الاطاع على العقد ومصادقته
    في حال كونه لاشائبة قانونية فيه ولايتعارض مع قوانين
    البلد ، استلم الاوراق اطّلع عليها بشكل سريع ووضعها على
    مكتبه وعاد ليجلس بجانبنا على طقم القنفات المريح الذي
    يتوسط الغرفة مع منضدة في الوسط عليها صحن كبير
    )بلم( مملوء بالمكسرات )كرزات( وبدأنا حديثاً يتعلق بالوطن
    والمشاريع الطموحة التي ينتظرها الجميع بعد اهمال وظلم
    العهود السابقة ، انفتح الحديث وتشعّب الى مواضيع مختلفة
    وشبعنا كرزات ولم ينفذالصحن المشحوف ، ودعناه وغادرنا
    السفارة بصعوبه لم يكن الرجل يرغب بذهابنا بعد ان ارتاح
    الى حديثنا وطلب منا الحضور في اليوم الثاني لاحتمال انتهاء
    اجراءات تصديق العقد كان الرجل ودوداً ومضيافا .. حضرنا في
    اليوم التالي قبل العاشرة وغادرنا في الواحدة قضيناها بجلسة
    واحدة متصلة أتينا فيها على مشحوف الكرزات بكامله مع
    ما صحبه من فواكه.. في اليوم الثالث اصبح من الواضح ان
    اليوم سيكون كسابقه فانبريت الى سعادة السفير؛
  • يمعود استاذ خلينا نطلع هي كم يوم جايين مايصير
    نقضيها سوالف وكرزات بالغرفه ، هناك امور كثيرة ينبغي ان
    ننجزها ، مشاريع يجب ان نطلع عليها ، أجابني:
  • وين تروحون خلونا هنا سوالف حلوه وفد ساعه نتغدى…
    كان واضحاً ان الرجل ليس لديه عمل ، لاشيء يشغله ، لديه
    وقت فائض كثير، بلد في اقصى شرق الارض وعدد من
    يزوره من العراقيين قليل جداً ، ربما بعض من تجار السيارات
    فقط وقليل من المسؤولين الموفدين ذلك ان حياة الليل هنا
    ضعيفة جداًلا تقارن بدول اخرى .. ولّينا هاربين تاركين سعادة
    السفير لصحن المكسرات الكبير يعاقره الملل ويسلّس فيه
    با شهية ، فياليوم الثالث تمت مصادقة العقد، أنهينا مهمة
    السفارة لكن لابد من منادمة سعادة السفير ساعة من زمن ،
    في غمرة متعة صحن الكرزات سألته:
  • لدينا طلب اذا أمكن تحقيقه..
  • نعم تفضلوا..
  • أردنا فيزة الى اليابان ..
  • لماذا ماذا تفعلون باليابان ؟
  • حقيقة لايوجد عندنا شغل هناك ولكن ولاننا وصلنا الى هنا
    والمسافة اليها نصف ساعة بالطائرة فهي فرصة ان نراها ،
    اربعةاو خمسة ايام ليس اكثر..
  • لعلمكم اليابان ليس فيها اماكن جميلة تستحق الزيارة
    صحيح هي دولة عظمى ولكن لايوجد فيها سياحة تستحق..
  • ليكن ولكنا نرغب بذلك ان نسجل أننا وطئنا ارض اليابان
    اقصى الشرق ونغسل ارجلنا بماء البحر الاصفر ، وكما
    ذكرتُلسعادتكم الامر ليس ضروري اذا كان سهلاً فبها ونعمت
    وإلا فا داع ان وجدتم فيه اي صعوبة او احراج..
    لم يجبني رفع الهاتف واتصل بالسفير الياباني كلّمه بانجليزية
    جيدة طالباً منه فيزتين لموظفين اثنين يعمان عنده في
    سفارة العراق في سول..
    استغربت هذا الطرح ولماذا الكذب في امر غير ضروري
    بالمره ، نقلت اليه شعوري، قال لاعليك سيتم الامر ، اعطوني
    جوازاتكم..
    سلّمها لموظف عنده ، طلب منه تصويرها وارسالها الى سفارة
    اليابان مكتب السفير ، لم تمض عشرة دقائق رن الهاتف ، كان
    السفير الياباني هو المتصل:
  • مرحباً سعادة السفير..
  • مرحبا بكم سعادة السفير..
  • ارسلتَ لي جوازين لغرض الفيزا الآن ؟
  • نعم هما من حدثتك عنهما..
  • ولكنك ذكرتَ انهما موظفين عندك في السفارة؟
  • نعم نعم بالضبط..
  • لكن الصور التي وصلتني لجوازين عاديين وليسا
    دبلوماسيين؟؟
    تلعثم سفيرنا وارتفعت نبرة صوته الاجش لتغطي ارتباكه
    وحرجه..
  • نعم نعم هما كذلك لان جوازاتهم الدبلوماسية قيد الاصدار
    في بغداد ولأن هذه السفرة مهمة لهما لحضور اجتماع مهم
    فيسفارتنا في طوكيو .
    …… –
  • سعادة السفير
  • نعم نعم معك سأحاول ان ارتب الامر..
  • شكراً سعادة السفير ..
    اغلق الخط وعاد ليتصل بسرعة بسفيرنا في طوكيو…
  • سلام عليكم ابو احمد..
  • عليكم السلام ورحمة الله وبركاته كيف الاحوال مشتاقين..
  • صبحكم الله بالخير والله احنا الاشوق شلونكم العائلة شلونها
    .. واشتغلت مجامات عراقية حميمة ، اكمل بعدها سفيرنا في
    سول..
  • عيني ابو احمد عندي مهندسين اثنين عراقيين خابرلتهم
    سفير اليابان هنا حتى ينطيهم فيزة سياحية.. اخبرته انه
    عندهماجتماع بسفارتنا في طوكيو فاحتمال يتصل بك حتى
    يتأكد من صحة المعلومة فأرجو تأكيدها له..
  • بس هاي؟ بسيطة تتدلل واها وسهلا بالشباب ، بالمناسبة
    خبّرهم لايحجزون فندق مكانهم محجوز يمي بالسفارة..
  • لا يمعود ماكو داعي للزحمة..
  • زحمة شنو ؟؟ اصا اني كاعد وحدي لاشغل ولاعمل هم
    يسوون جميل عليّه يجوني واني راح افرهم طوكيو واونسهم
    حسب الاصول..
    كان صوت السفير عالياً كنت اسمعه بوضوح صادحاً من خلال
    سماعة الهاتف الارضي وانا اتخيل حجم صحن الكرزات فيغرفته
    هناك، كُنتُ في حالة من الذهول، شككتُ بنفسي، هل انا في
    مبنى السفارة ام في مقهى في شارع ابو صخير!!!
    مرّت دقائق عاد سفيرنا في اليابان ليتصل مُخبراً ان السفير
    الياباني اتصل به وان الامور سارت على مايرام وسيكون
    بانتظارنا شخصياً في المطار.. اردف سعادة السفير ليُبلغنا ان
    سفيرنا في اليابان كلش خوش ولد وحباب وخلوق ومن
    الحزب الاسامي..
    لم يمض وقت طويل حتى اتصل السفير الياباني ليُبلغ
    سفيرنا باعتذاره عن منح الفيزة الآن لان الجوازات عادية وكان
    من المفروض ان نطلب الفيزة من بغداد ولكن ان احببنا ان
    نرسل جوازاتنا له فتأخذ الطريق الاصولي والوقت الازم لمنح
    التأشيرات السياحية ..
    في رحلة العودة كانت الطائرة تطير على ارتفاع احد عشر
    كيلومتر ودرجة الحرارة خارجها حوالي سالب 55 مئوية،
    الاضواءمطفأة داخل الطائرة والليل الحالك الطويل يحيط
    بها خارجاً لأنا نتحرك باتجاه الغرب كنت اجلس الى جانب
    النافذة وانظر الى الاضواء البعيدة على الارض ، السواحل خط
    نور متصل يرسُم خرائط البلدان كخطوط الاطالس والمُدن
    بقع نور تتألأ صفراء وبيضاء لاتبين تفاصيلها، كنتُ انظر
    الى الاضواء المنفردة الخافتة المتطرفة في حواشي المُدن
    أُركّز فيها وأتأملها بشغف لاأدري لماذا اتصور انها بيت او
    غرفة لحارس مشروع او مدرسة فيها سرير وتلفزيون صغير،
    قدح شاي ساخن وصحن كرزات رخيص على منضدة صغيرة
    بائسة، بالقطع لن يرقى مهما كَبُرت احام الحارس الى صحن
    كرزات سعادة السفير..
(Visited 8 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *