أسلوبية حديث المعرفة

أسلوبية حديث المعرفة

                                                                                                    د : رحمن غركان – كاتب عراقي 

                                           تقديم

      تجتهد هذه القراءة في تأمل حديث المعرفة وقراءته أسلوبياً ، كشفاً عن خصائص أدائه الأسلوبي في الركائز والمكونات أعني المكونات الثلاثة في المنهج: الإختيار والتوزيع والاتساع ومكونات الألفاظ الستة: المعجم والايقاع والتركيب والتصوير والبناء والمعنى التعبيري الذي هو في الحديث الشريف معنى نبوي، ذلك

أن حديث المعرفة مكثف وشامل ودقيق في أنٍ معاً ،ويصدر عن أفق تعبيري واحد، ونبض من أداء كلام مقصود، وبث خطابي شامل الأبعاد، فيه من نبوءات الكلام فيض، ومن نبوة القصد تبليغ، إذ جاء فيالأثر أن الإمام :علي بن ابي طالب (عليهما السلام ) سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن سنته فقال:

المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني،والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي،والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي،والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة.()

     صدر الحديث عن أسلوب  بياني واحد وهو التشبيه، وعن النوع البليغ منه، ممتداً على سبع عشرة جملة منه، كلها جمل إسمية، جاء فيها كل من المسند والمسند اليه معرفين، كان المسند في الجمل كلها معرفأً بـ(ال التعريف) بأستثناء الجملتين: الخامسة والسابعة عشرة اللتين جاءتا معرفتين بالإضافة، اما المسند اليه فكله معرف بالإضافة باستثناء الجملة السابعة عشرة التي جاء فيها المسند إليه معرفاً  ب(ال التعريف ) أما الجمل الست عشرة الأخرى فغلب عليها التعريف بإضافة المسند اليه الى ضمير المتكلم، وفي الجملتين: الأولى والثانية أضيف الى اسم ظاهر مضاف  الى ضمير المتكلم()

    ولما كانت المعاني النبوية هنا نبضاً شمولياً في الوجود وامتداداً سرمدياً في الزمان والمكان، فقد ناسبها وأضاء حالها هذا الصدور عن  الجملالإسمية  فقط من دون حضور لجملة فعلية واحدة. ولما كانت المعاني الموضوعية  نبوية ذات قصد تبليغي وإيحاءات رامزة بثبوت حال الصدق فيها والحقيقة قبل الواقع لديها فقد اضاء تعريف المسند وعدم تنكير المسند اليه مقتضى حال الخطاب، وجهات البث التي يعنيها، هي إنسانية عامة، إذ هي للناس كافة.

   أما تسلسل الجمل الإسمية السبع عشرة فقد اتصف أسلوب التسلسل بخصيصتين أدائيتين:عقلية أو معنوية في المسند وحسية ذات نزوع إقناعي في المسند اليه وهو ماتلحظه القراءة على المستوى الافقي لصياغة الجملة، أما المستوى العمودي فقد بدأ بما هو عام شامل أولاً  أعني :المعرفة والعقل.

   وخلص إلى ما هو خاص ذاتي ثانيا، أعني: الخُلُق والصلاة .وإن نظرة متأملة في المسند (المشبه) في كل جملة تفصح عن نزوع معنوي، ولكن المسند إليه ينزع للحسية او اللفظ المجسد لمعنى الحسية، ومرد ذلك الى حضور الاقناع وقوة التأثير في صياغة خطابية كهذه لا تحققه الصياغاتالأخرى:

1- المعرفة رأس مالي

2- والعقل أصل ديني

3- والحب أساسي

4- والشوق مركبي

5- وذكرالله أنيسي

6- والثقة كنزي

7- والحزن رفيقي

8- والعلم سلاحي

9- والصبر ردائي

10- والرضا غنيمتي

11- والفقرفخري

12- والزهد حرفتي

13- واليقين قوتي

14- والصدق شفيعي

15- والطاعة حسبي

16- والجهاد خلقي

17- وقرة عيني في الصلاة

     ولم يأت اللفظ في صياغة الجملة فنياً خالصاً إنما جاء إبلاغياً خالصاً، لاحتفاله بالمؤثر المقنع موضوعياً أكثر من صدوره عن الفني الموحي تأويلياً،فقد وضع الحديث عناصر المعرفة في الوجود وضعاً توصيفياً من جهة القصد ووضعاً موصوفاً من جهة الصلة بالحقيقة أكثر منها بالواقع كونه متغيراً جزئياً أما الحقيقة فواحدة، لذا يضع الحديث بين يدي وعي التلقي عناصر المعرفة وضعاً مكشوفاً كشفا ًباعثا على التأمل والتفكير المنتجين للتأويل لذا جاءالاختيار على مستوى اللفظ معبراً عن الوجود الكلي من دون  تقيد بموجود جزئي، ومن ثمة خضع توزيع الجمل لعنصري: المجاورة والتوازي، اما المجاورة فبين (المشبه والمشبه به)أعني المسند والمسند اليه.وأما التوازي فبين كل جملتين على تتابع الجمل السبع عشرة، أعني بين (المعرفة والعقل ثم الحب والشوق ثم ذكر الله والثقة ثم الصبر والرضا ثم الفقر والزهد ثم اليقين والصدق ثم الطاعة والجهاد) بما كان فيه اللفظ الأول من كل متوازيين مصدر ايجاد  فيما جاء اللفظ الثاني حالة وجود، فالمعرفة إيجاد والعقل وجود والحب إيجاد والشوق وجود، وذكر الله إيجاد والثقة وجود، وهكذا، ولما جاءت عناصرالاختيار على مستوى اللفظ وكيفية التوزيع على مستوى الجمل خاضعة لنمط أسلوبي مخصوص في الألفاظ ، كان فيه المقال موصولاً بأشكال اتسع فيها اللفظ على المعنى من جهة التعبير، كما اتسعت جزئيات الأسلوب (التشبيه) من جهة الألفاظ، فجاء الخطاب السهل موصولاً بفائض تعبير، وبخصائص أسلوب تستعصي سهولته على محاولات الاتيان بمثلها. وأن قراءة في مكونات الألفاظ الأسلوبي الستة، تذهب الى تعضيد هذا الوصف الذي أوجزته هذه التقدمة.

2- مكونات الألفاظ الأسلوبية :-

     تنقسم مكونات الألفاظ الأسلوبي في حديث المعرفة  النبوي على قسمين :أولهما يتضمن خمسة مكونات هي :المعجم والايقاع والتركيب والتصوير والبناء .وثانيهما يتضمن مكوناً واحداً هو المعنى النبوي. وإنما كان المعنى نبوياً لأنه جنس في الكلام وليس نوعاً ومعنى من خطاب حقيقي دائم الحقيقة،وليس قصداً واقعياً مرحلي المعنى، أو مؤقت القصدية. ثم ان خصوصية الصدور جعلت للنص القرأني معنى قرانياً، وللحديث النبوي معنى نبوي ،وعلى الضفة الأخرى من كلام الناس ، للنص الشعري معنى شعري، وللنص المسرحي معنى مسرحي، وهكذا تتصل خصوصية المعنى بجهة الصدور اتصال تحديد وتوجيه وقصدٍ وتعبير.

أ المكون المعجمي :-

     تصدر مكونات المعجم في اي خطاب عن حاجة المعنى الى الثراء وحاجة المرسل الى التأثير و الاقناع وكلما فاض المعجم بالتنوع وتعدد الحقول الدلالية دل ذلك على تمكن المرسل من عناصر الرسالة وكيفية الارسال، وكلما انتظمت عناصر المعجم على وفق اسلوب تعبيري معين دل على ذلك خصوصية المرسل من جهة الألفاظ الأسلوبية وبعده عن الترهل اللفظي،لأنه مجتهد في الاقتصاد وفي اللفظ بقدر اجتهاده بفائض المعنى وثرائه في آن معاً.

      وقد ضم حديث المعرفة تسعة وثلاثين لفظاً توزعت على سبعة حقول دلالية هي :حقل العقل وفيه(العقل والعلم والمعرفة). وحقل الحب وفيه (الحب والشوق والانيس والرفيق والحزن وقرة العين ).وحقلالاساس وفيه(الاساس ورأس المال والكنز والغنيمة والقوت والرداء ) وحقل الدين وفيه ( أصل الدين وذكرالله والصلاة والشفاعة والاخلاق واليقين) وحقل السلاح وفيه (السلاح والجهاد والصبر والقوة والمركب والحرفة) وحقل الكفاية وفيه (الكفاية والرضا والطاعة والزهد والصدق والثقة والفخر)وفي كل هذه الحقول الستة يحضر الموجه الاخلاقي  بفاعلية ثابتة، ينزع الخطاب للإقناع بصياغات غير مرتجلة مع اتصالها باليومي المتحرك في الحياة وبالنبض الفاعل في تجلياتها حتى جاء المكون المعجمي متصفاً بخصائص الخطاب الإقناعي في :-

أضاءت فصاحة اللفظ جهات المعنى الاقناعي في الحقول الدلالية الستة التي توزعها الحديث، وقد اتصف تسلسلها بتناسب دقيق ، من العقل وما عبر عنه ، الى الحب وما تجلى منه ، الى الاساس وما استقام عليه ، الى الدين وما أستضاء به ، الىالإسلام وما احتيج اليه، وفي ختام الحديث الكفاية وما استظل بها.

    أفصح الأسلوب البياني الذي انبنى فيه معجم  الحديث عن نزعة الاقناع بصياغات للمعنى تفيض بالتربوي الموجه، والعاطفي المتأمل وهيمنة الحسي الباعث على الاقناع.

أتسم معجم الحديث بالايجاز مع ألفاظ العقل 🙁عقل،علم،معرفة)والافاضة في ألفاظ الشؤونالأخرى ايحاء بأن العقل واحد وشؤون الحياة الآخر ى تجليات فيه حيناً وعنه  احياناً اخرى، كما جاءت (هيمنة التعريف)على الألفاظ كلها موصولة بغلبةالإسمية وغياب الفعلية، ذلك لان المعاني في الجمل السبع عشرة حقيقة دائمة الواقع، متحركة بين يدي الحياة حركة أزل وليس انتقالات مرحلية.

ب المكون الايقاعي :-

      المكون الايقاعي عنصر مستقر في تشكيل الخطاب الإنساني المعبر، فليس من نص فاعل الا وينتظمه نهج إيقاعي خاص يمثل أسلوب صياغة حيناً وأسلوب نظم احياناً أخرى أو الهاجس النفسي المبثوث فيه أوالاجتماعي الموجه له او الجمالي المنفعل به. فأسلوب صياغة الكلام وكيفية نظمه ينتجان سياقاً إيقاعياً،تجمع حركيته:المبنى والمعنى;فالنظم إيقاع صادر عن الألفاظ والعبارات من جهة الهيأة الحاصلة  عن كيفية النقلة من بعضها الى بعض حتى تتعدد الأشكال الإيقاعية بحسب أشكال الوضع وأنحاء الترتيب. أما الأسلوب فينتج عنه إيقاع صادر عن أوصاف حركات القول من ألفاظ وعبارات وكيفيات النقلة بينها وصلتها بغرض القول وكيفيةالاطراد() .

      وهذا التصور للإيقاع نلحظه في الشعر ونحسه في النثر على حد سواء،على ان عناصر   الايقاع الشعري خصوصاً تمتاز من عناصر إيقاع النثر،ويمتاز إيقاع القرآن الكريم بخصوصية صادرة عن تميزه عن كل فنون القول وأشكالها وقد قرأ ذلك دارسون كثيرون() فالنظم وأسلوب التعبير رافدان يصنعان الايقاع في النثر، ويمدانه بعناصر أنتظامة وأشكال تحققه. لأن تناسب المعاني في الأسلوب بما يماثلها من كيفية في التوالي والاستمرار المتناسبين انما يصنع إيقاعا خاصاً. ثم أن تناسب التأليفات اللفظية في النظم بما يماثله من كيفية في تواليالألفاظ وتناسبها وتوالي العبارات والجمل وكيفية انتظامها; انتقالا وترتيباً، كل ذلك يسهم في إيجادالايقاع في النص النثري. وفي حديث المعرفة الشريف يجيء الايقاعي، بيانياً بلاغياً، حتى أجدني ذاهباً مع الرأي الذي يقول بأن الايقاع البلاغي:حركة تنبثق عن الخلفيات الوجدانية و الانفعالية للنفس المبدعة، وتتجسد من خلال العلاقات السياقية التي تولد بدورها حركة لغوية تتوافق مع حيوية النفس المبدعة وانفعالاتها فتفصلها عن متطلبات الجمود لتفسح المجال للعاطفة والانفعال الوجداني حيث يتكامل الجانبان في نفس المبدع، وإذ يبلغان النضج يولد العمل الفني أو النص في  صورة إيقاعية متكاملة.()

      نخلص من هذا الايجاز الى كون المكونالايقاعي عنصراً فاعلاً في كل نص ابداعي مؤثر،سواء كان شعراً على تعداد أشكال الألفاظ أم نثراً على تعدد فنون النثر. بما يوجهني الى تشخيص عناصر المكون الايقاعي في حديث المعرفة الشريف في ما يأتي:

صدور الحديث عن أسلوب التشبيه في نوعية البليغ من أول جملة تشبيهية (المعرفة راس مالي) الى اخر الجملة (وقرة عيني في الصلاة )وعلى امتداد سبع عشرة جملة جعل النص يصدر عن إيقاع من اسلوب  بياني واحد، كانت الجملة الأولى فيه مرتكزاً تجلتالآخر ى عنها بفائض من ثراء الخطاب.
صدور الحديث عن اسلوب الصياغة الإسمية نمطاً إيقاعياً لافتاً جاء متناسباً مع شمولية المعاني وثبوت اتصالها بالحقيقة وتعبيرها عنها بما يدل على الديمومة والاستمرار،حتى بدا إيقاع الإسمية رتيباً متناغماً مع أصالة المعنى ونزعته الإنسانية .
غلبة  التعريف ب(أل) على المشبه وغلبة التعريف ب(  الإضافة) على المشبه به وتكرار ذلك بتتابع متناسب خلق نمطاً إيقاعياً مخصوصاً  في الألفاظ.
غلبة البث المعنوي الوجداني منه او العقلي او المنطقي في المشبه في مقابل شيوع البث الحسي في المشبه به خلق عنصر اداء إيقاعي اشاعه تكرار هذا المنحى في جمل الحديث كلها بأنحاء صياغية متناسبة .
قصر جمل التشبيه السبع عشرة وتتابعها على نمط اداء واحد في التركيب وكيفية الصياغة خلق حساً إيقاعياً عززت مجساته تكرار الجمل على نمط صياغي متشابه العناصر جعل الصياغة تبث على لحن إيقاعي متشابه العناصر.

ج المكون التركيبي :-

       هيمن على المكون التركيبي في حديث المعرفة نوعان تركيبيان، أولهما بلاغي بياني وثانيهما نحوي دلالي فأما البلاغي فتمثل في التكرار والتفريع وأما النحوي فبدأ في التحول البنيوي الدلالي. يتمثل التكرار هنا في صورة الجملة وأسلوبها وتركيبها وليس في لفظها وجزء من معناها ;لأن جملة (المعرفة رأس مالي)من مبتدأ وخبر أو مشبه ومشبه  به تكررت صورتها ونبض اسلوبها وأن أختلف البث الدلالي في كل جملة من سواها من الجمل السبع عشرة ،حتى خلق هذا التكرار ملمحاً إيقاعياً أشرت اليه في المكون في المكون الايقاعي وعناصر التكرار تمثلت في: صورة الجملة وأسلوب العطف، والتعريف ب (أل) في المشبه ،والتعريف ب(الإضافة ) في المشبه به ،وتتابع كل ذلك في جمل الحديث كلها على نحو من تناسب ثري الدلالة .

    أما التفريع في لغة الحديث هنا فلا اخص به اصطلاح البلاغيين القدماء تحديداً ، الذي الذي يخصونه كما التكرار في اللفظ الظاهر انما اقصد المعنى قبل اللفظ،،كما في التكرار الذي ذهبت اليه   الآن .

     فالتفريع هنا نظام تركيبي تتفرع الجملة الثانية والثالثة وما بعدها عن نظام الجملة الأولى وأسلوبها وكيفية تركيبها، بالشكل الذي تتابع فيه سلسلة الجمل –كما في الحديث الشريف هنا تضافرا يجمعهما سلسلة متشابهة من العناصر ونمط أحادي من كيفية التركيب ، بما تكون فيه الجملة الأولى مصدراً تصدر عن فاعليته الأسلوبية الجمل الأخرى فيما يشبه الترادف الدلالي الخاص .وهذا النمط التركيبي يناسب الخطابات ذات النزوع التوجيهيالإقناعي والبث الارشادي الحافل بالمعاني الإنسانية المحتفية بالشمول والمكتنزة بالحقيقية، على نحو يفصح عن الحقيقة ولا يرمز لها ويبوح ولا يوحي ويكشف عن القناع. والتفريع اذا تكثف في نص من خطاب أو في نص بعينه خلق نمطا إيقاعياً مؤثراً.

    أما التركيب النحوي الماثل في عنصر التحول البنيوي الدلالي فيتضح في تتابع الجمل الإسمية وتناسبها وتآلفها وتماسكها حتى بدا الحديث بجمله السبع عشرة جملة واحدة من جهة وفيضاً من جمل  ذات ثراء تعبيري من جهة اخرى ، بما يعكس التماسك النحوي فاعلية البنية في كل جملة اسمية من جهة وثراء بثها الدلالي موصولة بسياق من تماسك نصي مع الجمل الأخرى من جهة ثانية .ويكشف هذا النمط عن نزعة عاطفية الى الافصاح وتوق الى التبليغ وصفاء ذات ينزع الى اضاءةالأخرى ،لذا تجيء بلاغة التركيب مكتنزة بتماسك عضوي دلالي.

  د المكون التصويري

    حين يرسم نص نثري موجّه صورة معينة فإنه يصوغها بنسق لغوي صياغة ذات أداء اقتصادي مكثف تقترب الألفاظ فيها من أن تكون رموزاً دالة على معانٍ يريدها ذلك النص بما تجيء الصورة كما ذهب الى ذلك الجرجاني ;ابداعاً ذهنياً يحيل الى إحساس بالأشياء والوقائع صادر عن نمط منالادراك الحسي لها().

     فهي إحساس من جهة الادراك وهي ابداع من جهة الألفاظ وهي انجاز للمعنى وتحقيق له ،وهنا يسهم الخيال بقوة في صيرورتها . ولكن الخيال في لغة الصورة في الحديث الشريف ،كما في (حديث المعرفة) بوصفه إنموذج خيال موصول بالواقع وصادر عنه ومتصل بالحقيقة ومعبر عنها تعبير كشف وايضاح وأقناع ،لذا يهيمن عليه النزوع الحسي بما يجعله في متناول وعي المتلقي قريباً من بصره ،فاعلاً في  بصيرته فعل دلالة اولاً ثم فعل تأملٍ باعث على التفكير.

     وجاءت الصورة في حديث المعرفة صادرة عن أسلوب التشبيه البليغ ،بما بدا المعاني في كل جملة من نتاج تحاور دلالي أو تشارك موحٍ بين المشبه ذي البث المعنوي والمشبه به ذي البث الحسي فجاء تشبيه المعرفة برأس المال كاشفاً عما يشبه المشاركة الدلالية في إنتاج المعنى بين المعرفة ورأس المال للإيحاء بمعنى المنبع او المصدر أو ديمومة الثراء،وهكذا التشارك بين العقل وأصل الدين للإيحاءبمعنى الاسس والثوابت او المحدودات التي يقبلها المنطق ،وهكذا بين الحب والاساس في معنى الثابت الفطري الدائم الازدهار، وبين الشوق والمركب في معنى الحركة المثمرة او الحركية الايجابية الدائمة ،وبين ذكر الله و الانيس في معنى التكامل و   الإيحاء الدائم الازدهار ،وبين الثقة والكنز في معنى الثراء الروحي والمادي في ان معاً، وبين الحزن والرفقة في معنى غياب الخلود عن الزائل او قل عدم جدوىالانقياد للزائل او الحزن على المؤقت توقاً للدائم ،وبين العلم والسلاح في معنى الحماية والامان و الاطمئنان ، وبين الصبر والرداء في معنى الحماية والدفاع، وبين الرضا والغنيمة في معنى القناعة وبينالزهد والحرفة في معنى الانتماء للحياة الحقيقية وليست الواقعية ،لأن الحقيقة فطرة سماء والواقع صورة أرض متغيرة . وبين اليقين والقوة في معنى ديمومة الحياة ،وبين الصدق والشفاعة في معنىالانتماء للصواب بوصفه حقاً مراداً ،وبين الطاعة والكفاية في معنى الانقياد لله سبحانه ،وبين الجهاد والخلق في معنى الصبر على شؤون الدنيا وتناقضاتها بيقين من اتجاه الهي واحد، وبين الصلاة وقرة العين في معنى الاطمئنان الذي لا شائبه فيه ولا انكسار فهو فرح بالله دائم .

ومما تستنتجه القراءة من لغة الصورة التشبيهية مايأتي :

المجاورة بين المشبه والمشبه به تفيض بما يبعث علىالإقناع العقلي هو ما تنزع إليه لغة الصورة في مستوييها: الظاهر والعميق، لاحتفالهما بالحقيقة فطرة وجود، وتوجيههما الواقع ليكون حقيقة إيجاد إيجابي في معانيه الإنسانية .
كل جملة رسمت صورة تبليغية أفصحت عن معنى الديمومة والتواصل الايجابي واقتران المعنى بالدائمالايجابي أي الإنساني العام ،لان التبليغ انساني شامل فهو للناس كافة ،وهو من سمات النبوة المشرفة .
الصورة في كل جملة ليست للجمال الفني المحتفى بالزينة الباعثة على الاغراء ،إنما هي للتأثير الباعث على الحقيقة التي يمثّل كشفها للمتلقي مفاجأة تدهش إدهاشاً يتآزر فيه الفني بالعقلي و الذوقي بالوجداني ،وأثر ذلك يكون الجمالي صادراً عن الصورة الكاشفة عن الحقيقة لتكون الحقيقة المكشوف عنها هي الجمال، بما تجي كيفية الكلام البيانية اداء جماله معنى الحقيقة كما كشفت عنها صورة الكلام .  

ھ – المكون البنائي :-

     اتصف بناء الحديث بتماسك عضوي لصدوره عن اسلوب صياغة واحد  ،تبدت عنه الجمل الأخرى في مستوى أفق تبليغي واحد، فجاء الحديث أفقياً منفتحاً على التعدد بما بدا بناؤه جارياً كالنهر فأولّه 🙁المعرفة رأس مالي ) واذا كان ختامه في الجملة السابعة عشرة ب(قرة عيني في الصلاة ) فإنالامكان يبقيه مفتوحاً على جمل أخرى يصدر الكلام فيها عن صفات سنة رسول الله –صلى الله عليه واله وسلم –ومعانيها الشريفة، بما جعل بناء الحديث افقياً اشبه ب(اللانهائي) ايحاءً بأن سنة الرسولالاكرم الخاتم أولها أرضي هو المعرفة بوصفها راس مال الناس في الدنيا ، وأخرها ممتد الى السماء ومن معانيه هناك أن قرة العين الصلاة في الآخرة فجاء المكان في الحديث متسعاً واسعاً أوله أرضي وأخره سماوي ،ولما جاء الحديث مبنياً بصياغات من جمل أسمية فأن سرمدية المكان تصبح ممكنة وتشبهها سرمدية الزمان أيضاً  ،لأن المعاني النبوية المعبّر عنها فيض من نبوة أولها في الارض وأخرها في السماء وبثراء من تواصل واستمرارية ،لا تترددفيه الأفعال و لا تتبادل فيه الادوار الاماكن والاشخاص ،بمعنى ليس هناك من نزوع درامي لحركة الزمان والمكان ، لأن الحقيقة سكونها حركة وأزليتها أماكن .

     أما بناء الحديث عمودياً فيحفل بما يبعث علىالاقناع فجاء أسلوب الصياغة مضيفاً شيئاً على شيء آخر إضافة إفاضة وإقناع وليس إضافة زيادة وترهل وهكذا تسلسلت المشابهات (المعرفة ، العقل ،الحب ، الشوق ، …) ثم المشبه به (رأس المال أصل الدين، الاساس ،  الانس،…)وكل ذلك يكشف عن تنوع الاشياء وتراتبها وليس تشظيها وتراكمها ،وكل ذلك يستدرج وعي المتلقي ويستميل إصغاءه ،بما يكون التبليغ فيه مفضياً الى الاقناع ، والافصاح فيه مؤدياً الى الوضوح .

وقد اتصف البناء من جهة مكوناته بتشابه العناصر بشكل لافت من خلال هيمنة الجملة الإسمية ،تعريف المسند ب(ال) والمسند اليه بالإضافة ،غلبة المعنوي على ايحاء المسند والحسي على المسند اليه ، البدء  من المشترك الإنساني  (المعرفة رأس مال والختام بالخصيصة الايمانية  في الإنسان (قرة العين الصلاة )بما جاء أسلوب البناء صادراً عن مقتضى المعنى ومحيطاً به.

والمعنى التعبيري :-

     المعنى التعبيري هو ما سبق إيضاحه في المكون التصويري بوصفه معنى بيانياً صادراً عن اسلوب التشبيه البليغ بالشكل المتناسب الباعث علىالإيضاح والتأثير والاقناع، فالمعرفة معلومة ولتقرير حالها تشبهت برأس المال للتعبير عن معنى اصل النماء الذي يدر خيراً وعطاء ،وهكذا في العقل والحب والشوق وذكر الله سبحانه حين تشبهت بأصل الدين و الاساس والمركب و الأصل و الانيس؛ وبما يلفت النظر ان المشبه شأن معلوم ومعروف وجيء بالمشبه به إما لتقرير كونه معلوماً معروفاً  مثل : الاساس والمركب والشوق والانيس والسلاح والرداء ، او لبيان إمكان المشبه به كما في :كنزي وسلاحي وقوتي، او لبيان حال المشبه كما في :رفيقي وفخري وشفيعي والصلاة .و اقتران الغرض البلاغي بثلاثة موجهات رئيسة هي: تقرير حال المشبه وبيان إمكانه وبيان حاله ،يعزز الفاعلية الإبلاغية للحديث ، والبثالإقناعي ولاسيما في عناصره :العاطفية والعقلية والتربوية. وهوية المعنى  التعبيرية هنا نبوية شريفة لغلبة الصدق فيها على مجرد الاقناع ،ولاحتفالها بالحقيقة الموصولة بواقع صائب ،والصدور الفني فيه عن صواب الحقيقة الدائم بما بدت الصياغة فيه لغة تعبير واقناع باليقين اكثر صياغة فنية للخطاب.

     في جملة (المعرفة رأس مالي )ايحاء بمعنى عمومية الرسالة المحمدية التي يشترك في الحاجة لها الناس كل الناس ،فالمعرفة رأس مال كل عاقل ،ولكنها حين تجيء عنواناً في سنة نبوية مشرفة بالوحي فذلك موصول بشموليتها للناس كافة، وجاءت بعدها جملة (العقل أصل ديني )لتوكيد المعنى نفسه وتفصح عنه بشمولية أعمق وأدق في التوجيه ،ثم جملة (الحب اساسي ) ليكون الانتماء للفطرةالإنسانية ثرياً في نقائه، وقد جاءت جملة (الشوق مركبي ) لتعميق ذلك وثرائه ،وبين الجملتين الأولى والثانية صلة من وعي عميق ،كما بين الجملتين الثالثة والرابعة صلة من قلب نقي ،وثريا الجملالاربع في الجملة الخامسة (ذكر الله انيسي ) اما الجمل الاثنتا عشرة الأخرى فتجليات عن الجمل الخمس الأولى ،مع ان المعنى التعبيري احتفل بالتقابل بين الألفاظ على نحو او اخر من مثل (المعرفة والعقل \الحب والشوق\ذكر الله والصلاة \الجهاد والصبر\الطاعة والرضا  الزهد والفقر\…)بما يظهر فيه حديث المعرفة مكتنزاً بالثوابت التي ينبني عليها الوجود من عقل وعاطفة وصدق وصبر وذكر وصلاة وعلم ومعرفة وجهاد .حتى استمد الحديث عنوانه من احاطة بعناصر المعرفة من عقلية ونقلية ووجدانية احاطة تبعث على التدبر والتأمل والتفكير .

(Visited 36 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *