صفة المخرج بين العبقرية والعبثية / المخرج  صائب غازي

صفة المخرج بين العبقرية والعبثية / المخرج صائب غازي

صائب غازي
ليس هناك أسهل من أن ينال شخص صفة مخرج وفقا للمعايير العشوائية التي أحدثها هذا العدد الكبير من القنوات التلفزيونية وشركات الإنتاج ومواقع التواصل حتى أصبح الإخراج المهنة المتاحة والأسهل منالا طالما يتوفر مصور ومونتير جيد عندها يستطيع أي شخص أن يطلق على نفسه هذا اللقب بدون تردد فكل ما مطلوب منه أن يقوم بالصاق صور ولقطات الى جنبها البعض فيصبح لديه عملا يعرضه ثم يشارك فيه بمهرجان ويعتلي المنصة ليشرح لنا فلسفته اللا فلسفية ، هذه الحالة اليوم تنتشر في العراق وفي العالم العربي كله حتى اصبحت الأمور اعتباطية والعديد يضع لقب مخرج الى جوار إسمه في صفحات التواصل الاجتماعية فاصبحت مهنة الدخلاءع بلا منازع ،

فكما يبدو أنه لم يعد للدراسة الأكاديمية أهمية بمكان وحتى تصبح مخرجا ليس بالضرورة أن تعرف شئ عن تجارب ونظريات (كوليشوف) في فن المونتاج وليس مهما أن تشاهد وتحلل فيلم (المدرعة بوتمكين) لسيرجي ايزنشتاين ولا أهمية اختراع اللقطة القريبة من قبل المخرج الأميركي كريفث أو قواعد الانتقال والقطع السلس وليس مهما أيضا أن تدرس شيئا عن السينما الصامتة ودخول الصوت اليها مع أول فيلم ناطق (مغني الجاز) في عام 1927 أو تشعر بقيمة عناصر الصوت من حوار وموسيقى ومؤثرات وصمت أو ربما لا داعي لأن تتعايش عمليا ونظريا مع عمق الميدان أو زوايا التصوير أو عناصر التكوين أو كيف تتلمس سطح الصورة أو تتوغل بين ثنايا عمقها أو تختلط أحاسيسك بقوة مع حجم الكتلة وتوزيع الإضاءة وتوازنها في الكادر أو تسعى لإشباع عقلك وقلبك بنظريات الفن ومدارسه العلمية المختلفة مثل الواقعية الشعرية التي ظهرت في فرنسا أو الواقعية الجديدة في ايطاليا أو السينما الحرة البريطانية والتعبيرية الألمانية أو سينما الكاميرا عين وغيرها من النظريات العديدة وليس بالضرورة أن تقرأ كتاب (فهم السينما) الذي كتبه لوي دي جاينتي وترجمه عراب السينما العراقية الراحل جعفر علي والذي يعد بمثابة دستور للسينما ولايمكن لباحث أو متخصص أو حتى هاوي مهما تطور الزمن أو تغيرت التقنيات أن يتجاوزه وكل من درس السينما في العراق يدين بالفضل للمخرج الراحل مترجم الكتاب الأستاذ جعفر علي وكيف لا وهو مؤسس قسم السينما في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد وهو من تتلمذنا جميعا على يديه وجعلنا نعشق صناعة الصورة ، لا يغادر ذاكرتي سؤاله لي في احدى الجلسات اثناء دراستي للماجستير “كم مرة قرأت كتاب فهم السينما؟” فأجبته اربع مرات فقال “وكيف رأيته؟” قلت له في كل قراءة اكتشف معلومة جديدة مع اني قد مررت عليها سابقا لكني ومع تجربتي العملية في الإخراج كنت في كل مرة اقرأه يضئ عندي زاوية لم يكن قد تسلل اليها الضوء ، اليوم وقد تجاوزت قراءاتي للكتاب سبع قراءات لا أزال اكتشف الجديد فيه ذلك الى جانب استلهام المعلومات والأفكار من كتب اخرى مثل اللغة السينمائية ونظريات الفيلم الكبرى وعلم جمال السينما واللون في السينما وغيرها الكثير من مناهل العلم والفن ، هكذا ينشأ المخرج الأكاديمي الحقيقي الذي يجمع بين المهنية والعلمية وليس الذي يعتمد على التقنيات السهلة التي يوفرها زمن القفزات التقنية والتي وإن كان يحتاجها كل مخرج يواكب التطور لكنه إذا ما أفتقر الى الجانب الأكاديمي التأسيسي لن يتمكن من فلسفة الصورة ولن يصنع الجمال الذي يتشوق اليه دائما الجمهور فتعَلُم تقنيات الربط بين لقطتين لا يكفي لنيل هذا اللقب العظيم (المخرج) والذي قد يخفى عن الكثير من الذين تظهر اسماءهم في التايتلات أن الإخراج لم يكن يوما شغلا تقنيا فحسب وانما في أساسه رؤية وفلسفة فكرية وبناء معرفي،

فالمخرج لا يكتب النص ولا يصور ولا يقوم بعمليات المونتاج بنفسه ولكنه يكون حاضرا في كل تلك التفصيلات لأن الجميع في النهاية يعمل لرؤيته هذه الرؤية هي التي يتم تحويلها من نص مكتوب على الورق الى صورة على الشاشة تحمل كما هائلا من المشاعر والأفكار التي يمكن أن تؤثر في المشاهد أو تؤثر في حركة الانسان وتطور الشارع والمجتمع وحتى تؤثر في العملية السياسة وتبعاتها ، هذا الذي يجب أن يعيه من يطلق على نفسه لقب مخرج و إلا فلا يصح له نيل اللقب ، كما أن الإخراج لا يمكن أن يقاس بالكم وإنما بالنوع فهناك الملايين من المخرجين في العالم ولكن يوجد ستيڤن سبيبلرغ واحد وجيمس كاميرون واحد وميل جبسون واحد وهتشكوك واحد وكل واحد من هؤلاء قادر على خلق رأي عام وكل واحد منهم يستطيع أن يؤثر في الحياة الإنسانية والسياسية والاجتماعية ويمكن له أن يؤثر حتى في اسواق البورصة ، أما في العراق فالمخرج مجرد موظف ينهي يومه بشكل روتيني ويستلم راتبه ويتوقف ابداعه عند الترقية الوظيفية وهذا أبعد من أن يطلق عليه صفة مخرج نحن بحاجة الى خلق كيان اسمه (الإخراج) ذلك بأن يتكون لدينا مخرجين أعلام يكون لهم حضور ابتكاري ابداعي فاعل ومؤثر وتتردد اسماءهم بقوة وبحضور كبير في كل المحافل والمجالات وليس مجرد إسباغ صفات على عواهنها وينتهي الأمر أو مجرد أسماء فيها الكثير من الغث وقليل من السمين ، المخرج الذي لا يترك اثراً في ذاكرة المشاهد يصبح مخرجا عابرا لاقيمة له هذا الأثر ليس بالضرورة يكون في السينما فقط وانما يمكن أن يتحقق من خلال المسلسل أو الوثائقي أو حتى في البرنامج فكل صورة يُنتجها يجب أن تحمل دلالة ومضمون فلسفي دال على فكرة يكون لها دور عند ارسالها وتلقيها وما بعدها فالصورة المعبرة تدل على عبقرية المخرج

(Visited 30 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *