عدم اليقين.. ومحنة السؤال؟ د. عبد الستار الجميلي

عدم اليقين.. ومحنة السؤال؟ د. عبد الستار الجميلي

  أ. د عبد الستار الجميلي

    يمر العراق بمرحلة من عدم اليقين في الحاضر والمستقبل معا..ولذلك أسباب كثيرة..

    فالنظام يُمعن في المنحى الطائفي الأحادي الإقصائي المغلق،بموازاة نشر الخوف وارهاب الدولة عبر تعميم السلاح خارج حق الدولة الحصري في إمتلاك مصادر القوة وبسط السلطة والسيادة على كامل الأراضي الاقليمية، ودعم هذا المنحى بإعادةإنتاج غطاء الشعارات وخطاب الغرائز والرغبات لتبرير الإستبداد بالسلطة والطغيان. وفي مقدمة هذه الشعارات: سردية فلسطين التي أصبحت شعارا جاهزاً تلجأ إليه السلطات والجماعات من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها الخاصة ليس إلاّ، وإن كان الثمن ملايين الشهداء والمصابين والمفقودين والمهجرين من الشعب العربي الفلسطيني.

    فيما تُكرّس كتل بغداد وأربيل بتقنين فج منظم، قواعدالإستبداد والفساد والتبعية، عبر لعبة ديمقراطية شكلية مفصّلة على مقاس محاصصة طائفية وعرقية مقيتة لا تمت للعصر والدول الحديثة بصلة، يتمحور صراعها العبثي الصفري على السلطة والغنيمة والاقصاء.. وفي مواجهة ذلك تواجه الدولة، في فكرتها ومنطقها وضروراتها، إقطاعيات عائلية وقرابية حوَّلت الوطن إلى مزرعة تتقاسمها مافيات ذات أذرع محلية وإقليمية ودولية، إغتصبت المال والدومين العام وحولتهما إلى ملكية خاصة، وبالتالي تركز الثروة والغنى الفاحش بيد القلة، في مواجهة فقر مدقع تعيشه الغالبية صاحبة ومصدر الثروة والسلطة معا، ما دفع إلى التسول الذي تحول إلى ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث، البلد النفطي.

    وعلى مستوى السلطات والعلاقة التكاملية المفترضة فيما بينها، فقد غاب “مبدأ الفصل بين السلطات” سوى نص دستوري معطَّل، فكلا السلطتين التنفيذية والتشريعية يُشرع ويَحكم وُيقاضي، والرقابة المتبادلة مُحيّدة، أو مسكوت عنها..والسلطة القضائية تعاني من التدخل المباشر في إختصاصاتها وقراراتها، ولا تسري ولايتها إلاّ على المواطنين العاديين وحسب،فيما أصبحت غالبية شخوص ورؤساء الكتل والتيارات والجماعات مناطق محضورة على القانون والنقد وحتى اللمس. وتجري محاولات مستمرة لتعطيل دور المحكمة الإتحادية العليا، حتى من بعض أطراف السلطة القضائية، بعد أن باتت هذه المحكمة القلعة الأخيرة في الدفاع عن سيادة وحقوق الوطن والمواطن عبر قراراتها الأخيرة، التي أثبتت فيها قدرة علىالتصدي القانوني العادل لبعض مكامن الإستبداد والفساد والتزوير والتحريض، وغير ذلك من صور الإنتهاكات.

    أمّا منظومة الإدارة والخدمات فقد تراجعت على مستويات عديدة، على مستوى السكن الذي لم يعد متاحاً إلاّ للقلة، والصحةوبنيتها البشرية والمادية المتهالكة، وتمزق الرصانة الوطنية والعلمية للتربية والتعليم العالي تحت ضربات معاول التعليم الأهلي، ويطول الحديث عمّا أصاب خدمات الكهرباء والمياه الصحية، والزراعة والصناعة والنقل والمواصلات وغيرها من الخدمات من تدهور شامل، في غياب تنمية بشرية ومادية حقيقية تُخرج العراق من الإقتصاد الريعي النفطي الأحادي، بإتجاه تعظيم الواردات غير النفطية ومشاريع الإستثمار في البنى التحتية والمشاريع الإستراتيجية وإعادة الحياة للقطاع العام والزراعة والصناعة وتنشيط القطاع الخاص الإنتاجي.. وضاعف من مخاطر هذا التراجع تحوّل الفساد والرشى إلى ظاهرة متفشية في كلّ مفاصل ومؤسسات الدولة، ما أضاف عبئاً جديداً ومعاناة ثقيلة على حياة المواطنين اليومية ومعاملاتهم وحقوقهم وحرياتهم الأساسية.

    وإذا ما حاولنا الإقتراب من بنية المجتمع ومنظومته القيميةالتي واجهت فجأة غزو وفوضى وسائل التواصل الإجتماعي بدون رقابة وتقنين، فإن لغة الأرقام الرسمية وغير الرسمية من المؤسسات والمنظمات ذات الصلة، تعطينا مؤشرات خطيرة إلىإرتفاع نسب الجريمة بكل أنواعها المنظمة وغير المنظمة، من جرائم غسل الأموال وتهريبها والمخدرات وإلى جرائم الاتجار بالبشر مرورا بجرائم الخطف والسرقة والإبتزاز وغيرها الكثير من الجرائم التقليدية والمستحدثة.. إلى جانب إرتفاع نسب الطلاق وما يترتب عليه من تمزق للروابط الأسرية والإجتماعية، التي عُرف بها المجتمع العراقي، داخل العائلة الواحدة وخارجها، ناهيك عن إنتشار قيم سلبية بين الشباب الذي وجد نفسه بعد الإحتلال وافرازاته الطائفية والعرقية في خضم أزمة إنتماء وصدمة قيمية أمام محاولات غسيل مخ منظمة وموجهة محليا وخارجياً لتجريده من أي قضية ذات قيمة ومعنى، سوى البحث عن قنوات الهروب عبر المخدرات أو السهر والتحلق حول الكرة أو التفكير بالهجرة واللجوء إلى مواطن أخرى، أو إستقطابه، بدوافع الحاجة أو التغرير، ضمن مستنقعات المحاصصة أو الجريمة أو الارهاب.

    أمّا السياسة الخارجية للنظام فهي إنعكاس لفوضاه الداخلية،فإلى جانب رهن إرادته للخارج وأوهام الطوائف، فلا يمتلك النظامأي رؤية أو إستراتيجية تضع مصالح العراق وتعظيمها ومحدداته وثوابته في موضعها الصحيح النابع من هويته الوطنية والعربية والإسلامية التاريخية والجغرافية والحضارية والثقافية، وموقعه الجيوسياسي الحسّاس العربي والإقليمي والدولي، وتُحدد الأصدقاء والحلفاء والأعداء ومصادر التهديد والمخاطر والمطامع، والأهداف والإمكانيات، وغير ذلك من جوانب السياسة الخارجية لدولة أغلب مصادرها من المياه والغذاءوالكساء والدواء والسلاح تأتي من الخارج.

    ومع كل هذه المعطيات المريرة وغيرها الكثير، تجري عملية تعمية على الحقائق والوقائع والأرقام من خلال مجموعات من الأدعياء الذين يحاولون تجميل الصورة البائسة بإضافة مفردات أكثر بؤسا لقاموس مديحهم لكل رئيس حكومة يأتي، وإجترار الحديث عن منجزات وهمية تحت عناوين معنوية وإنشائية أو الزهو الفارغ بالجسور والطرق وبناء مولات غسيل الأموال، وينسون أنّ هذه الجسور والطرق هي إلتزام وواجب مفروض على الدولة وحق للمواطن، وليس لها من فائدة إذا لم تكن جزءاًمن مشروع أوسع لبناء وطن يجمع ولا يُفرق ويبني ولا يهدم، وليس جزءاً من مشروع نظام يريد أن يبتلع الدولة والنظام ويجيرهما لحساب أوهام طائفية كانت وما تزال نتاج تشوهات جنينية في التاريخ، جرى توظيفها سياسيا، لحسابات ومصالح إقليمية ودولية، مزّقت العراق وطنياً ومجتمعياً وسيادياًوأوصلته إلى مصاف الدولة الفاشلة.. أما مَنْ يقبضون على السلطات فإنهم لا يدركون ما يجري خلف جدران المنطقة الخضراء، ويفتقرون إلى معايير ومواصفات رجل الدولة،ويتشاركون غواية وترف كرسي السلطة الساحر والغنيمة والخوف في نفس الوقت، الخوف فيما بينهم، والخوف من الشعب والمصير المجهول، ويحاولون جاهدين إيقاف عجلة التاريخ الهجري والميلادي، بمنطق قواعد القوة والغلبة، وخطاب الغرائز والرغبات والأوهام، والإستقواء بالخارج واستجلاب الإحتلال والتموضع الدولي والإقليمي.

    لذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه علينا بغصة مريرة، نحن الذين عشنا وهجَ الحلم وقسوة إنكساره، أحقاً هذا حصاد دمائنا ونضالنا الطويل في غياهبالأقبية والسجون والتعذيب والمنافي؟: نظام هجين أُقيم على محاصصة طائفية وعرقية مقيتة أفرزها بدايةًإحتلال أمريكي بغيض، وبعدها الإمعان في التمكين الطائفي الأحادي الإقصائي المغلق، ومن ثمّ وصولاً في مرحلة لاحقة الى الفصل الطائفي والعنصري، على غرار نظامي طهران وأنقرة وقبلهما أنظمة الفصل العنصري في أفريقيا.

2

(Visited 103 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *