الورقة المختومة
الجزء السادس
سُحِلَ عماد الى دائرة امنية في بغداد وانقطعت اخباره تماما عن العائلة.
في يوم ٢٥ تشرين الثاني من عام ١٩٩٤ لم نكن انا وسلام نعرف مصيره وماحل به. كنانسمع استغاثاته عبر اثير مكهرب. وفي اللحظة التي كان يلوك فيها ورقة الاسرار في ظهرسيارة اللاندكروز كنا نتوقع انتهائنا الى مصير يشبه مصيره. الموقف في محل ازياءهشام في بغداد الحديدة في ذلك اليوم فاق التوتر.كانت هناك حالة طوارئ لم نتوقعها. ولم يبقَ في ذخيرة الامل اي مجال للمناورة.
محمود حاول جاهدا ان يهدئ من ارتفاع ضغط دمنا في تلك اللحظة المفصلية. كان يحاولاستخدام العقل الذي تسرب منا انا وسلام دون ان ندري.
(لازم تسافرون بسرعة. الانتظار خطر عليكم).
بالنسبة لي كان لزاما ان اجمع بعض المال من صديقي طبيب التخدير ثمن اربطة العنقالتي ابتاعها مني، وكان علي ايضا ان اذهب الى عمادة كلية الطب لاستخراج وثائقالتخرج من الدراسات العليا وكان هذا المشوار هو الاصعب بالنسبة لي. تلك هي المهمةالاولى التي ستلي استلام جواز السفر.
بعد عقد قمة ثلاثية في محل ازياء هشام للمرة العاشرة ذلك اليوم خرجنا بقرار مهم. السفرسيتم بعد يومين بالضبط اي يوم ٢٧ من تشرين الثاني حتى لو لم يتمكن احدنا من السفر، على الاخر ان يمضي دون تردد.
اذن ودعنا محمود. مضينا انا وسلام الى دائرة الجوازات. كان الرعب جليسنا الثالث فيالسيارة والصمت هو الرابع. سلام سيمضي الى عائلته التي زلزل قوامها اختفاء عمادوانا ماضٍ الى دائرة الجوازات للمرة الثانية هذا اليوم لامتحان ارادتي في الصبر. أنزلنيهناك على الشارع العام واتفقنا ان نلتقي في اخرة المساء.
في دائرة الجوازات كان هناك عدد اقل من الجمهور الصباحي وهدأت موسيقى المصطفينفي طابور الاختام. مضيت الى دائرة الاصدار مباشرة دون الاصغاء الى هلوسات قلقيالمتزايد.
بدأ الضابط طقس التوزيع وهو يقوم بروتين يومي بان على وجهه وفي حركة جسده وفيقبضته مجموعة من الجوازات الكاملة واستهل بالنداء على الاسماء. كان هناك حواليعشرين شخص يصغون باهتمام الى الاسماء الواردة. حين سمعت اسمي لم اتقدم لاستلامالجواز . كان هذا تكتيكي الاخير.
بعد القبض على عماد انتابني الشك ان في هذه الجمهرة الصغيرة من ينتظر حضوريبفارغ الصبر . فاقت اوهامي في تلك اللحظة تدبيرات العقل الرصين وبدا حسي الامني هوالمنتصر والمسيطر.
انتظرت الى ان فض الجمع من شباك دائرة الاصدار واختفى الضابط تماما.
ذهبت الى الشباك تصحبني ادعية وابتهالات وسألت النائب عريف الذي كان يختم بعضالاوراق في الغرفة. انهكه السعال من كثرة التدخين. ولم يكن في الغرفة سواه الى جانبصورة كبيرة لصدام حسين وضعت كأنها تذكير للراغبين بالسفر ان هناك من يراقبهمويعرف كل اسرارهم.
شتريد؟ قال بلهجة متبرمة لان الدوام على وشك الانتهاء.
العفو اني وصلت متاخر لاستلام الجواز ، الشوارع زحمة اليوم.
تعال باچر ( عبارة مفضلة في دوائر الدولة العراقية الرسمية).
اخي الله يخليك والله حاجز للسفر وبس باقية على الجواز. توسلتُ
على المنضدة التي استولى عليها بكرشه الكبير رقدت بعض الجوازات التي رماهاالضابط بعد ظهوره الاخير ذلك اليوم.
خلص الدوام. قال نائب العريف الذي تثاقل من النهوض على كرسيه واستمر بختم الاوراقامامه وملأ الغرفة بدخان سيجارته الذي غطى على صورة السيد الرئيس وافقده هيبةالقائد.
قبل ان يعيد جملته المكررة ( تعال باچر) دخل جندي ببعض الاوراق وتنبه لوجودي القلقعلى شباك الانتظار العقيم. كان هبة من سماء قررت الرفق بي اخيرا.
لم يسأل حتى ماهو سبب وجودي؟
شنو اسمك؟ قال بنبرة العارف والخبير وهو يفرز حزمة الجوازات التي تركت يتيمة دوناصحابها ذاك النهار.
احمد سلمان– اجبت
وامتدت يد الهية في الغرفة التي اضحت الان ملاذ النجاة الاخير لي.
جوازك تفضل.
واختفى حتى قبل ان اشكره وسط امتعاض نائب العريف الذي نهض اخيرا واغلق شباكدائرة الاصدار محاولا التذكير بسلطته التي مُسِحَت بالارض منذ قليل.
هذا الجندي سينضم الى جلال في قائمة النصب التذكارية للمساهمين في خلاصي.
رقد الجواز في يدي مثل طفل ولد للتو ورحبت بقدومه الى عالمي بنبض دافئ وحميم. تلكهي المرة الاولى التي احصل فيها على جواز سفر عراقي رغم الشكوك التي راودتنيصباحا امام ضابط الامن.
المرة الاولى التي اشم فيها صك الحرية.
والمرة الاولى التي تعترف فيها الدولة التي تهدد وجودي منذ ولادتي انني قادر على مدخطوة خارج شبكة عنكبوت قهرها الازلي.
بعد ان استلمت الجواز باردا اصبح دافئا في يدي وعادت له الحياة.
اسرعت خطاي خارج دائرة الجوازات وفيَّ شعور طاغٍ بالانتصار. انتبهت الى كلالتفاصيل التي اهملتها صباحا ، كرم الشمس في ذلك اليوم البارد وصوت ناظم الغزاليمن مذياع عربة بائع الشاي وضوضاء الجمهور المنسل من الدائرة اخيرا بعد معركة اليومالطويلة مع الاختام وضابط الامن ومتراس الممنوع .
يتبع