أ.د. ابراهيم العاتي
اثار سماحة العلامة الحجة السيد حسين السيد محمد هادي الصدر (دام حفظه)، موضوعا طالما اهتم به الشعراء، قديما وحديثا، وهو تعبيرهم عن الحالات التي يمرون بها عند تقدمهم بالسن، وشعورهم بالفوارق العميقة بين مرحلةالشيخوخة وما سبقها من مراحل، من خلال صور فنية مبتكرة، ولفتات بارعة، اورد منها سماحةالسيد الصدر أمثلة وشواهد جميلة، واود ان اضيف هنا بيتين للشاعر المبدع دعبل الخزاعي (ت 220 هـ) مما يعز نظيره، قال:
اين الشـــباب وأية ســلكا؟
لا ليس يرجع ضلّ بل هلكـا
لا تعجبي يا سلمُ من رجـــلٍ
ضحك المشيب برأسه فبكى!
وبعد ذلك تتباين التصورات، فاذا ذهب أكثر الشعراء الى الحنين الى عهود الصبا والشباب، وبخاصة فترة العشرينيات من عمر الانسان، التي يحرص الجواهري عليها قائلا:
وانا ابن العشرين من مرجع لي
ان تقضت صبـــابة العشـــرينِ؟
نرى ابا الطيب المتنبي يسأم من طول مقامه في هذه الحياة، رغم انه لم يبلغ العشرين من عمره، فيقول:
وما ارْبت على العشرين عمري
فكيف مللت من طول البقــــاء!
بينما يرى شاعر آخر، أن من يسأم تكاليف الحياة، هو من بلغ الثمانين، او تجاوزها، كما كما عبر عن ذلك زهير في معلقته، فقال:
سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانيــــن حولا لا ابا لك يســـأمٍ
ولكن كل ذلك لا يمثل الا رؤية واحدة للزمان، تصوره على انه القوة القاهرة للانسان ، الا ان هناك رؤى اخرى، احداها:
ان الشيخوخة لا تصيب الانسان فقط بل يمكنها، مجازا، ان تسري الى الزمان نفسه، يقول المتنبي:
وقتٌ يضيع وعمر ليت مدته
في غير امته من سالف الامم
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرّهم واتيناه على الهَرمِ!
والزمان هنا يشبه الانسان في شبابه وهرمه!
وقبل المتنبي قال ابو تمام في (بائيته) الشهيرة:
من عهــد (اسكندرِ) أو قبل ذلك قـــدْ
شابت نواصي الليالي وهي لم تشبِ
والثانية: رؤية الشاعر احمد الصافي النجفي لموضوع الشعر والشيخوخة، لأن فيها شيئا من الغرابة المنطوية على الفرادة والابداع، وهي من مميزات شعره. فالشيخوخة عنده تبدأ اعراضها في الاربعينيات من عمر الإنسان، يقول:
الجسمُ قبل الأربعين حاملٌلنا وبعد الأربعين نحمله!
وحينما يجري به قطار العمر نحو الستين، يبدو في غاية الوحشة والتشاؤم:
استقبل الستين مستوحشا
لا اهلُ لا مالٌ ولا ولـــدُ
لا مسكنٌ آوي له ثابــــتٌ
لا سكنٌ لا هندُ لا دعـدُ
كأنني اســلك في ظلمــةٍ
وما أرى نجما بها يبدو
كعاشق ماتت لديه المنى
وقائد اســـلمه الجنـــدُ!
****
وقد استثارت تلك القصيدة،التي استشهدنا ببعض ابياتها، عاطفة الشاعرة والناقدة الفلسطينية الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، فردت عليه بقصيدة، تحاول فيها تخفيف آلامه واحزانه، وبما انها قصيدة قديمة، وتعود الى اواخر خمسينيات القرن الماضي، فقد تفضلت الدكتورة سلمى بارسالها لي من مقر اقامتها في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي بعنوان (آمال وأحلام) تعليقا على قصيدة الصافي، وهي قصيدة طويلة ورائعة ايضا، نقتطف منها هذه الابيات:
يا شاعري أدميت قلبي لما
تشكو من الدنيا وتربــــدُّ
غنيتني لحنا حزين الصدى
وما رحمت الدمع اذ يبدو
علام هذا الحزن يا شاعري
وأنت لا مال ولا ولا ولدُ
لا مطمعٌ يغريك لا هاجسٌ
يشجيك لا قربٌ ولا بــعدُ
أقصيتَ دنيا الشر في عزلةٍ
أليس منآها هو القصدُ؟
****
واذ يبدو الشاعر مستوحشا في الستين، والمتوقع أن يزداد وحشة وهو يستقبل السبعين، فانه يفاجئ قرّاءه بعكس ما يتوقعون، ويكتب ساخرا من التسعين، ومتحديا السنين، وانها إذ تجري مسرعة نحو السبعين، فروحه باقية على العشرين! ويقول في بيتين صارا يجريان مجرى الامثال:
ســــني بروحي لا بعــــدّ سنيــنِ
فلأسخرنّ غدا من التسعيــــنِ
عمري الى السبعين يركض مسرعا
والروح ثابتة على العشــــرينِ
ويكون بذلك قد تعرف على حقيقة الزمن الذي يمر به الشاعر، ويدركه بشكل داخلي او نفسي، فهوزمان غير منقسم، ويتحرك فيه الشاعر بحرية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهو الذي اتاح لشاعرنا الصافي ان يفرق، بين زمانه الروحي، والزمان الطبيعي الذي ينقسم الى أعوام وشهور ودقائق وثواني (بعدّ سنينِ) ! وتلك هينظرية الفيلسوف الفرنسي (برجسون) في الزمان، ولا اعتقد ان الشاعر الصافي قد اطلع عليها من قبل، كما حصل بالنسبة لبعض قصائده التي تحمل معاني جدلية (ديالكتيكية)واضحة، وسئل إن كان قد قرأ (هيجل) او غيره من فلاسفة الجدل، فاجاب بالنفي!!