علاء الخطيب
شكل ادب الخرافة جانباً مهماً من حياة الاوائل ، اذ كانوا بحاجةٍ ماسة الى تفسيرات منطقية للظواهر المحيطة بهم. كأمواج البحر المزمجرة التي تبتلع البشر ، و أصوات البرية في الظلام الدامس المخيف ، و قصص الجن وتحولها الى بشر او حيوانات ، و الحيوانات المرعبة ، وغيرها الكثير .
فلا يكاد يخلو شعب من شعوب العالم من هذا الادب ، الذي تحتفظ به ذاكرة الناس الشفاهية المتوارثة .
وجاء علم الاساطير او ” الميثيولوجيا” ليدرس الخرافة بشكلٍ علمي ، و ليكشف لنا حقيقة الخرافة ،وسبب وجودها وتبريراتها الاجتماعية. والنفسية .
والى جانب كون ادب الخرافة والاسطورة ترفاً فكرياً في وقتنا الحاضر ، فهو ضرورة اجتماعية في ذلك الزمان، فبالاضافة الى تفسيره للظواهر الكونية التي أعجزت الناس انذاك ، فهو يوفر مساحة من المتعة الروحية، والتسلية ، كما يُستخدم في بعض الاحيان اداةً للردع والتخويف للخارجين عن السنن الاجتماعية،
فهناك اساطير كثيرة وظفت لهذا الغرض
مثل خرافة ” حمار القايلة ” عند الكويتين لتخويف الاطفال ، التي تتحدث عن امرأة ذات اربع ارجل وشكلها كالحمار ، والسعلوه عند كثير من البلدان العربية او أم الصبيان في اليمن أو الدُبة عند العراقيين .
فمن خلال القص وصل لنا تراثاً ضخماً، وموروثاً ثراً ، عرَّفنا بتعامل القدامى مع بيئتهم الثقافية والدينية والاجتماعية، وكيفية نشوء المعتقدات القديمة.
فهناك الكثير من الموروثات قد لا نجد لها تفسيرا منطقياً في عالمنا اليوم ولكنها جائت كضرورة روحية وتفسيراً مقنعاً للناس في حينها.
ففي وادي الرافدين مثلاً ، كان النهر مصدراً للرعب ، وكان العراقيون القدامى يعتقدون ان في اعماق النهر كائنٌ مخيف يتربص بضحاياه ليبتلعهم، فكلما غرق احدهم في النهر ازداد لديهم الاعتقاد بوجود الكائن ، لذا عبدوا الماء ، و أوجدوا له إلهً اطلقوا عليها اسم ” نينا” وهو مقدسة لديهم ، شيدوا له صرحاً في وسط المدينة وراحوا يقدمون القرابين له ، ويبتغون رضاه .
وكذا الحال بالنسبة للحيوانات الخارقة التي شملت رموزاً خرافية ، فقد وجدناها مرسومة في الكهوف وعلى الصخور الكبيرة في الحضارات القديمة ، مثل الثور المجنح ، وكائنات نصفها انسان ونصفها الاخر حيوان .
ومن هنا نشأ اعتقاد لدى سكان حضارة وادي الرافدين بوجود العفاريت والأرواح الشريرة داخل الكيان المادي للإنسان وما حوله ، وكان اعتقادهم ناشئا من ان هؤلاء الجن والعفاريت هم أبناء الآلهة .. ولا يمكن التخلص من شرورهم وبالتالي كان جميع أهالي بابل يؤمنون بالأسطورة.
هذا الموروث دلنا على نوع العقيدة للبابليين والاشوريين، وتناقلته الاجيال عبر الذاكرة الشعبية ، فوصل لنا بعض من ذلك الموروث .
وهكذا بقية شعوب العالم ، فلكل بيئةٍ متطلباتها وظروفها ، وقد تشترك الشعوب المتجاورة والتي تحمل ثقافات متقاربة في الكثير من ملامح هذا النوع من الادب . وعلى سبيل المثال فان دول الخليج والعراق واليمن لديهم مشتركات ميثولوجية كثيرة، وان اختلفت تفاصيلها او مسمياتها بعض الشئ ، لكن يبقى جوهرها واحد .
فحكايات الجن والسلعوة و الطنطل و طير الهامة وغيرها من الاساطير التي تتناقلها الاجيال القديمة في هذه البلدان، والتي شكلت تراثاً شعبياً جميلاً ، يشير الى رسوخ الانسان بهذه الارض، وطريقة تعامله مع الظواهر اللا معقولة .
يدلنا الكاتب والباحث الاماراتي الدكتور عبد العزيز المسلَّم رئيس هيئة التراث في الشارقة على نماذج كثيرة من التراث الاماراتي الذي سجلت حضوراً مشابهاً في بلدان مجاورة اخرى من خلال كتابه القيمً ” موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الاماراتي ” الذي يفتح لنا الباب على فهم اعمق لحياة الاوائل في منطقتنا .
ويذكر عدة نماذج من هذه الكائنات كـ (( الراعبية و السعلوه والشبيه الضبعة والهامة وغيرها ))
طيور الراعبية او ما يطلق عليها بالعراق ” الرواعب” ذات الطيور ولكن المخيال الشعبي العراقي طوعها حسب معتقداته الاجتماعية والدينية .
ففي التراث الاماراتي يقول المسلَّم عن الراعبية :
” هي حمامة برية يستحب رؤيتها وغناؤه في البيوت ، فهي ملهمة الشعراء.
ويسرد لنا حكاية جميلة في.سرد قصصي محبب للنفس .
” يحكى ان إمراة كانت تسكن هي و ولدها الوحيد خارج المدينة وهي فقيرة الحال ، وقد نفذ ما عندهم من الطعام ، فارسلت ولدها لطلب الطعام بعد رأت من بعيد ان ناراً تشتعل فطنت انهم جماعة من النتين ولا هناك ، وانا ذهب الصبي الى تلك النار تأخر وظلت أمه تنتظره ، ومرت الساعات ولم يعود الولد، فعزمت ان تذهب لتتفقده، انا وصلت الى النار خمدت وانطفئت وعلمت انها نار الجن. الذي اختطفت ولدها فانقلبت الى طير وبقيت تنوح على ولدها .
او في سيناريو اخر للحكاية يورده المسلَّم في كتابه آنف الذكر أن ” احداً سرق بيضها وبقيت تطلبه وتلعن من يلومها ”
هذه الحكاية الخرافية تشابه الى حدٍ ما حكاية طير الفاختة أو الفخته في العراق والبحرين.
التي تقول ان الفاختة فقدت اختها وظلت تبحث عنها وهي تقول :
كوكوختي وين اختي بالحله
اشتاكل باكله
اشتشرب ماي الله
وللفاختة في البحرين حكاية قريبة من شقيقاها في العراق والامارات ، إذ زعموا أنه كان للفاختة بنت تسمى «ثابتة» أكلها الصقر فأخذت تنادي عليها «يا ثابتة يا بتي».
والملاحظ ان الحكايات فيها قاسم مسترك هو فقد العزيز وفراق الاحبة والوجع الذي يخلفوه .
ولطيور الراعبية اسطورة عراقية ذات وجه آخر أدخل فيها المقدس .
هذه الطيور تسمى في العراق “الرواعب” وهي ذات لون احمر مائل الى البني ، سميت بهذا الاسم لانها ترى الجن كما يقال ، وقد اضفى المخيال الشعبي شئ من القداسة على هذا الطير وذكروا حديثاً في بحار الانوار ” المجلسي ” وكذلك في كتاب مرآة الكمال ” عبد الله المامقاني “يقول : أن الامام الصادق قال لبعض اصحابه: “اتدرون ماذا تقول هذه الطير ، قالوا لا ، قال انها تلعن قتلة الحسين فاتخذوه في منازلكم”
وبالانتقال الى كائن خرافي اخر هو ” السعلوَّة”
التي تسمى في اليمن “صياد أو أم الصبيان ” وفي العراق بـ السعلوَّة وفي البحرين تسمى “السعلو” وكذا الحال في الكويت تسمى بالسعلوة،
وفي الامارات تعرف بـالسعلوة أو “أم الدويس” وكل هذه الاسماء لحكاية مخلوق على شكل انثى يفتك ويخيف ويرعب الرجال .
ففي الاساطير البغدادية القديمة ، تذكر السعلوة بانها كائن خرافي يظهر في أزقة بغداد بعد العشاء، وقد ارتدى ملابس النساء، وغطت نفسها بالعباءة، فإذا شاهدت رجلاً أشارت له أن يتبعها ، فإذا لحقها، أخذته إلى مكان منزوِ وافترسته. وينقل البغداديون حكاية متوارثة وهي إن رجلاً اسمه حسين النمنم، وكان صياد سمك في نهر دجلة، اختطفته السعلوة وأخفته في غار يقع على النهر شمالي مدينة بغداد، وعاشرته معاشرة الأزواج فرزقت منه بولدين، وبعد ثلاث سنين تمكن حسين النمنم من الهرب من الغار والعودة لأهله، فشاهدوا جسمه وقد أصبح كتلة لحمية مترجرجة لشدة الضعف الذي أصابه. فوصف لهم السعلوة بأنها تشبه حيوان الغوريلا».
وحكاية الطنطل كذلك تتحدث عن كائن خرافي وهو ابن السعلوة وتشترك كثير من البلدان العربية بهذه الخرافة .
خرافة طير الهامة هي الاخرى حكاية غريبة ، اذ يعتقد الاماراتيون كما جاء في كتاب الدكتور المسلم ، ان الهامة طير خرافي كبير مرعب ويوصف بانه وحش، يأكل المحاصيل وما يدخر الناس ، ويخرب البيوت . ويعتقد البعض ان طائر الهامة هو البومة ، وهي دلالة على الشؤم، ويسمى في بعض البلدان العربية بـ ” أم خريس ” وأم الصخر
ُوطير الهامة في الاسطورة العربية هو طير يطالب بأخذ الثأر من القاتل .
تقول الاسطورة اذا قتل شخص ودفن يأتي طير على قبره اربعين يوم و يصيح ” اسقوني إسقوني ” ،لا يهدأ حتى يأخذ بالثأر .
ويذكر الشاعر ذي الاصبع العدواني في قصيدة له هذه الخرافة فيقول :
يا عمرو إن لم تدع شتمي و منقصتي
أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وهكذا تتحول الحكايات الخرافية الى ثقافة شعبية والتي اصبحت في عصر العلم. موروثاً شعبياً ، وأدباً جميلاً حفظ لنا تراث الاجداد. وحكاياتهم مع الطبيعة والبيئة .