ضوابط الطاعة الشرعيّة في تعاليم الإمام علي بن موسى الرضا السياسية

ضوابط الطاعة الشرعيّة في تعاليم الإمام علي بن موسى الرضا السياسية

 

المفكّر الإسلامي الدكتور محسن كديور

أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ديوك الأمريكية

ترجمة: المترجم العراقي حسن الصرّاف

 

السياسة هي علم استعمال السلطة ومواجهتها، والسياسة الدينية هي استعمال السلطة ومواجهتها وفق الضوابط الدينية. يخبرنا القرآن الكريم بأنّ الأنبياء الماضين مثل سليمان وداود ويوسف كانوا في زمانهم أصحاب سلطة، بالإضافة إلى ذوالقرنين وطالوت اللذين كانا من الأولياء الإلهيين، إذ ترأس كلّ منهما السلطةَ السياسية في حقبة معينة. ولا تخلو سيرة سائر الأنبياء والأولياء المذكورين في القرآن من مواجهة السلطة السياسية. وهكذا الحال بالنسبة لأولياء آخر دينٍ سماوي، فكلّ واحدٍ منهم واجه السلطة السياسية بنحوٍ من الأنحاء.

بالإضافة إلى تلك المواجهة العامة للسلطة فإن بعض الأولياء في الإسلام قد ترأسوا السلطة السياسية واستعملوها فعلاً. نبيّ الإسلام محمّد بن عبد الله (ص) في المدينة (لعشر سنوات، من السنة الأولى للهجرة حتّى السنة الحادية عشر)، والإمام علي بن أبي طالب في الكوفة (بما يقارب خمس سنوات، من سنة 35 للهجرة حتّى سنة 40)، والإمام الحسن بن علي (لمدة ستة أشهر، من سنة 40 إلى سنة 41 للهجرة). وبالإضافة إلى هذه الفترات الثلاث القصيرة تجب الإشارة إلى الفترة التي تولّى فيها الإمام علي بن موسى ولاية العهد في عهد الخليفة العباسي عبد الله المأمون، في السنتَين 202 و203 للهجرة.

تكتمل هذه النماذج الدالة على التصدّي للسلطة السياسية بالإشارة إلى إعتراض فاطمة بنت رسول الله (ص) الصريح على السلطة السياسية التي جاءت بعد وفاة النبي في سنة 11 للهجرة، وهكذا الحراك الدامي الذي قاده الإمام الحسين بن علي في سنة 61 للهجرة ضدّ الانحرافات العلنية ليزيد بن معاوية عن الضوابط النبويّة. وتجب الإشارة أيضاً إلى ضغوطات السلطات السياسية على أولياء الدين مثل زجّ الإمام موسى بن جعفر في السجن، وكذلك آلية تصفية أئمة أهل البيت التي كانت غالباً من خلال دسّ السُّم إليهم على يد عناصر حكومية.

يرى المؤمنون بالسياسة الدينية بأنّ السلوك السياسي لأولياء الدين، (أي: النبيّ وأئمة آل البيت)، وخطاباتهم السياسية تستبطن جملةً من الضوابط والقواعد والمبادئ والأصول التي يمكن استخراجها واعتمادها كأساسيات للسياسة الدينية. وإن هذه المبادئ هي أمور كليّة وعامّة وعابرة للمسائل المتغيّرة والجزئية والزمانية والمكانية، وهي صادقة ونافذة في كلّ زمان ومكان، وعلى المؤمنين الالتزام بها وإجرائها. 

إن البحث في تعاليم أولياء الدين السياسية هي محاولة لاستخراج هذه الضوابط؛ على أنّ هذه العملية ليست ترفاً فكرياً أو مجرّد دراسة في حقلٍ ديني. بل إن ضوابط السياسة الدينية هي بمثابة معيار لتقييم هذه السياسة والسلطة الفقهية التي تكوّنت مؤخراً في مجتمعنا. نرجو التوفيق في إصلاح الأمور بالرجوع إلى تعاليم أهل البيت السياسية.

ندرس في هذا المقال التعاليم السياسية الخاصّة بالإمام علي بن موسى الرضا (148_203هـ). وبقطع النظر عن الرغبة العامة، فإن حبّ الإيرانيين الخاص بالإمام الثامن [لدى الإمامية]، كونه الإمام الوحيد المدفون في إيران، لم يكن بعيداً عن سبب اختيار تعاليمه موضوعاً لهذا المقال. وحريٌّ بمحبّي هذا الإمام أن يجِدّوا أكثر في الإلمام بمعارفه إلى جانب زيارة قبره، وأن يقرنوا الإشتياق والحب بالشعور الديني.

يقول الإمام علي بن موسى عن هذا الأمر: «رَحِمَ اللهُ عَبدَاً أَحيَى أَمرَنَا. فَقِيلَ لَهُ: وَ كَيفَ يُحيَي أَمرُكُم؟ قَالَ: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ فَإِنَّ النَّاسَ لَو عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامَنَا لَاتّبَعُوَنا.»

وما محاسن كلام الأئمة سوى استخراج المبادئ والأصول الكامنة في أفكار الأئمة وسيرتهم، ومعالجة المسائل الابتلائية واليومية بالاستناد إليها.

ولا شكّ في أن تنظيم تعاليمهم السياسية هي من جملة محاسن كلام أئمّة أهل البيت. تتكوّن هذه التعاليم السياسية من قسمَي الخطابات السياسية والسلوك السياسي، ومن خلال هذين المصدرين تتضح معالم سياسة أئمّة أهل البيت. ومن الواضح أيضاً بأن كثرة الخطابات السياسية وشمولها وكليّتها تجعلها أكثر أهميّة. إن الأحاديث المرويّة عن الإمام عليّ بن موسى فضلاً عن توافرها في كتب الحديث العامة في القرون الهجرية الأولى قد جُمعَت أيضاً في كتبٍ مستقلة في القرون الأولى والمتأخرة على حدّ سواء. فمن أقدم الكتب المعنيّة بجمع الأحاديث المرويّة عن الإمام الثامن هو كتاب (عيون أخبار الرضا) الذي ألّفه الشيخ الصدوق (ت: 381هـ) في 69 باباً. وإن أحدث كتابٍ يجمع الأحاديث المرويّة عن الإمام علي بن موسى هو كتاب (مُسند الإمام الرضا) للشيخ عزيز الله عطاردي.

يمكن استخراج ملامح السياسة الرضوية من خلال مجموعة الأحاديث والروايات التاريخية المعتبرة المنقولة عنه. تستند خطوتنا الأولى بهذا الصدد في الغالب إلى أقواله السياسية من دون أن نغفل سلوكه السياسي. ولبلوغِ هذا المقصود نبدأ البحث بتبيين بعض القواعد العامة في السياسة الرضويّة. عسى أن نشهد تدويناً وتوثيقاً لتعاليم آل البيت السياسية من خلال تنبيهات وانتقادات محبّيهم؛ إن شاء الله.

 

القاعدة الأولى: كلّ الإطاعات البشريةمحدودة ومقيّدة بعدم معصية الله

اِتّباع الأفراد لبعضهم الآخر هي من واقعيات الحياة الاجتماعية. فاتّباع الأبناء للوالدَين في الحياة الأسريّة، واتّباع الزوجة لزوجها في الحياة الزوجية، والخضوع للقوانين وللنظم الحاكم في المجتمع، ومن ثمَّ الخضوع والطّاعة لأصحاب السلطة والأمراء والسلاطين والحّكام، كلّ ذلك يمثّل هذه الواقعيات.

ثمّة أسئلة أزلية تُطرح حول الواقعيّات آنفة الذكر التي تُعَد من ضروريات الحياة الأسريّة والاجتماعية، ومن الواضح أن ما ما يخصّ هذا الحقل إنما هو «أمرٌ ونهيٌ» من جانب، و«طاعة وتبعية» من جانبٍ آخر. حيث يقف الآمر والسلطان وصاحب السلطة في جانب، ويقف المأمور والخاضع والمطيع والتابع في الجانب الآخر.

يستفهم السؤال الأوّل بهذا الصدد عن الشروط المطلوبة في مشروعية وجواز «الأمر والطاعة»؟ هل الشرط الحسن الفعلي (جواز الأمر والطاعة)، أم الحسن الفاعلي (توافر جملةٍ من الشروط في الآمر والسلطان)؟أم كلاهما؟ أم ليس أيّ منهما؟ ويستفهم السؤال الثاني عن صلاحيات الآمِر أو السلطان الحق، هل هي مطلقة بنحوٍ كلّي، أم مقيّدة بمراعاة جملة من الضوابط والشروط؟ وبعبارةٍ أخرى هل هي ولاية مطلقة أم مقيّدة؟

وفي السياق نفسه، هل اطاعة الآمرين، سواء أكانوا الوالدَين أم الزوج أم السلطان، هل هي اطاعة مطلقة أم مقيّدة؟ وهل تجوز في بعض المواطِن الاطاعة المحضة والتبعيّة المطلقة والعمياء من آمرين بشريين؟ وهل أحقيّة السلطان وعدالته تجوّز اطاعته واتّباعه بنحوٍ مطلق ومِن دون نِقاش؟ وببيانٍ آخَر ألا يكفي الحُسن الفاعلي لدى الأمر، لتجويز اتّباعه بنحوٍ مطلق؟ أين تجري قاعدة «المأمور معذور»؟ وما هي ضوابط السياسة الدينية في هذا المجال؟

لا تتوافر إمكانية مراعاة الحُسن الفاعلي في بعض الموارد، فانتخاب الوالدَين ليس بيد الأبناء، إذ يمكن أن يكونا غير مسلمَين وغير عادلَين. وفي صحّة الزواج لم تُذكر العدالة ضمن الشروط. ورغم وجوب جملة من الشروط في الحاكم الديني مثل التدبير والأمانة والإيمان، ولكن بنظرةٍ مجملة للمجتمعات الدينية، بل للمجتمعات قاطبة، يتضح بأن غالبية الحُكّام يفتقدون للشروط الشرعية؛ وبعبارةٍ أدقّ لم يتوافر فيهم الحُسن الفاعلي.

وبعيداً عن المثالية والطوباويّة فإن الواقع الخارجي يُنبئ عن فقدان الحسن الفاعلي في الآمرين والحكّام. وعليه يُستدعى استفهام بهذا الصدد ليقول: في مواجهة مثل هذا الواقع هل تُستلزَم توافر ضوابط شرعية في الحسن الفعلي الخاص بمسألة الطّاعة والتقيّد بها أم لا؟ ينوّه الإمام عليّ الرضا (ع) في جوابه المكتوب إلى المأمون، حول الإسلام الخالص وشرائع الدين: «وَبِرُّ الوَالِدَينِ وَاجِبٌ وَ إِن كَانَا مَشرِكِينَ، وَلا طاعَةَ لَهُمَا فِي مَعصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا لِغَيرِهِمَا، فَإِنَّهُ لا طاعَةَ لِمَخلُوقٍ فِي مَعصِيَةِ الخَالِقِ.»

بِرّ الوالدين كالوفاء بالعهد وأداء الأمانة، يقع ضمن الأمور الثلاثة التي لم يأذن اللهُ أحداً بتركها، وإن هذه التكاليف الثلاثة تقع على الصالح والفاجر على حدّ سواء. وبعبارةٍ أخرى إن هذه التكاليف الثلاثة بالنسبة للحُسن الفاعلي لدى الوالدَين تمثّل العهد والأمانة المطلقَين، ولا تتقيّد (هذه التكاليف) بدينهم وإيمانهم. بيد أن طاعة الوالدَين ليست مطلقة، بل مقيّدة بعدم ارتكاب المعصية؛ أيْ إذا كانا يأمران بالمعصية أو يمنعان عن أداء الواجب فلا تجب طاعتهما؛ وليس هذا فقط، بل لا تجوز مثل هذه التبعيّة. على أنّ هذا القيد لا ينحصر بقضية طاعة الوالدَين، بل لا يمكن طاعة أيّ أحدٍ في المعصية.

يُشير الإمام عليّ الرضا (ع) بهذا الصدد إلى قاعدةٍ بالغة الأهمية، وهي: «تقييد طاعة المخلوق في عدم معصيّة الخالق.» بعبارةٍ أخرى لا تجوز الطاعة المطلقة لأيّ إنسان، وكلّ الاطاعات البشرية مقيّدة بقيدٍ واحد: يُمنع الإطاعة في المعصية. وعليه فإن الإطاعة المحضة والتبعيّة المطلقة طبقاً لتعاليم الإمام عليّ الرضا (ع) لا تقتصر على كونها مرفوضة فقط، بل أنّها مخالفة للشَّرع، وإنّ الشّارع المقدّس لم يقرّ مثل هذه الإطاعة؛ وإنّ اللهَ ورسوله (ص) والأئمّة (ع) لم يطلبوا طاعةً عمياء من أتباعهم.

ينقل اللهُ سبحانه حجّةَ أهل الجحيم وتبريرهم في هذه الآية: «وَ قَالُوا أَطَعنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَائَنَا فَأَضَّلُوَنا السَّبِيلَا» إن تسيّد الكبار لا يُعد دليلاً على أحقيّة مواقفهم وآرائهم، وعلى المسلمِ أن يمتلك الحجّة الشرعيّة في عمله. وقد قال النبيّ (ص) لأوّل مرّة: «لا طاعَةَ لِمَخلُوقٍ فِي مَعصِيَةِ الخَالِقِ.» وقد أكّد الإمام علي بن أبي طالب (ع) هذه القاعدة.

بالإضافة إلى الموضعَين المذكورَين فإن الإمام عليّ الرضا (ع) استند إلى هذه القاعدة الأساسية في موضعَين آخرَين. الموضع الأوّل: «قالَ الرّضا (ع): قالَعليٌّ(ع): لا دِينَ لِمَن دَانَ بِطَاعَةِ المَخلُوقِ وَمَعصِيَةِ الخَالِقِ». والموضع الآخر: «عن الرضا، عن آبائه عليهمالسَّلام قال: قال رسول الله (ص): مَن أرضى سُلطاناًبِما يَسخُطُ اللهَ خَرَجَ عن دينِ اللهِ عَزَّ وجل.» بناءً على ما تقدّم هل يمكن القول حول أناسٍ اعتياديين بأنَّ طاعتهم هي طاعة الله؟

يُجيب الإمام علي بن أبي طالب (ع) عن هذا السؤال المهم في حكمةٍ زاخرةٍ بالوعظ، حيث قال:

»احذُرُوا عَلَي دِينِكُم ثَلَاثَةً… وَرَجُلَاً آتَاهُ اللهُ سُلطَانَاً فَزَعَمَ أنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللهِ وَ مَعصِيَتَهُ مَعصِيَةُ اللهِ، ‌وَ كَذَبَ لِأنَّهُ لا طاعَةَ لِمَخلُوقٍ فِي مَعصِيَةِ الخَالِقِ، لايَنبَغِي أَن يَكُونَ المَخلُوقُ حُبُّهُ لِمَعصِيَةِ اللهِ، فَلا طاعَةَ فِي مَعصِيَتِهِ وَلا طاعَةَ لِمَن عَصَي اللهُ، إِنَّمَا الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِوُلَاةِ الأَمرِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ مَعصُومٌ مُطَهَّرٌ لا يَأمُرُ بِمَعصِيَةٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِطاعَةِ أُولِي الأَمرِ لِأَنَّهُم مَعصُومُونَ مُطَهّرُونَ لايَأمُرُونَ بِمَعصِيَتِهِ.»

ذيل هذا الحديث الشريف يتضمّن تفسيراً لقوله تعالى: «يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولِ وَأُولِي ‌الأَمرِ مِنكُم» وبحسب رأي المفسرين قاطبة فإن الاطاعة المقصود بها في هذه الآية هي الاطاعة المطلقة، وإنها ممتنعة عن أيّ تخصيصٍ وتقييد. والطّاعة المطلقة لا تجوز إلا للمصعوم، فالآية الكريمة قد حصرت الطاعة المطلقة في ثلاثة موارد: إطاعة الله، وإطاعة الرسول، وإطاعة أولي الأمر. وقد أجمع المفسّرون الشيعة بأن الإطاعة المقصودة في هذه الآية هي الإطاعة المطلقة، ولأنَّ الإطاعة المطلقة لغير المعصوم قبيحة، فعليه فإنَّ فئة أولي الأمر المذكورة في القرآن تنحصر بالأئمة المصعومين (ع).

من النتائج القيّمة التي تقدّمها الآية الكريمة والحديث الشريف المذكورَين كالآتي:

أوّلاً: الإطاعة المطلقة تعني إطاعةَ مَن تكون إطاعةُ اللهِ في إطاعته، ومخالفة اللهِ في مخالفته.

ثانياً: تنحصر مثل هذه الإطاعة في الأوامر والنواهي الصادرة عن المعصوم فقط، ولا غير.

ثالثاً: لا يحقّ لأيّ أحدٍ من غير المعصومين أن يتوقّع من الآخرين الإطاعة المطلقة؛ أيْ إن مجرّد الظنّ بأن اتّباع أحدهم يمثّل مطلق اتّباع الله، ومخالفته مخالفة لله إنّما هو ظنُّ باطل. وبحسب ما أمر به الإمام علي بن أبي طالب: احذروا على دينكم مِن مثل هذا الشخص؛ أيْ لا تأخذوا دينكم مِن مثل هكذا أشخاص سلطويين وطامحين لبلوغ السلطة، فإنّهم غير مؤهلين لترجعوا إليهم في القضايا والشؤون الدينية.

وهنا يجب توخّي الدقة وعدم الوقوع في اللبس، فـ«نفي الإطاعة المطلقة» عن غير المعصوم لا تعني «نفياً مطلقاً» لإطاعة غير المعصوم. إذ أن الشّارع المقدّس بوضعه شروطاً لإطاعة غير المعصوم في بعض الموارد قد أجاز ذلك بل أوجبه. بيد أن كلّ هذه الإطاعات هي إطاعات مقيّدة ومشروطة. فمن الناحية الشرعية تلزم إطاعة الأبناء للوالدَين، وإطاعة الزوجة لبعلها في القضايا الزوجية، وإطاعة العبد لسيّده، وإطاعة المتخاصمَين للقاضي، وإطاعة المقلّد للمفتي، وإطاعة الجُندي للقائد، وإطاعة النّاس للسلطة العادلة. ولكنّ كلّ هذه الإطاعات الشرعيّة مقيّدةٌ بالقاعدة المذكورة التي تفيد: الإطاعة في الذنب والمعصية ممنوعة شرعاً.

نظراً لأهميّة بعض الإطاعات الشرعيّة فإن قيودها لا تقتصر على المورد المتقدّم، بل قُيّدَت بالحُسن الفاعلي لدى الآمِر والمُطاعِ أيضاً. بمعنى أن في إطاعة الوالدَين والزوج والمولى لا يُشترَط توافر العدالة، إذ يكفي عدم مطالبة الأبناء أو الزوجة أو المملوك بارتكاب الذنب والمحرّمات. ولكن في القضاء والافتاء والسلطنة، ومن أجل تحقق لزوم الإطاعة الشرعية يُشترط توافر العدالة أوّلاً، والعِلم لدى القاضي والمفتي والسلطان ثانياً. ومع إحراز الشروط تصبح أوامر هذه الفئات الثلاث، وفي الحدود التي رسمها الشّارع، تصبح «حجّة شرعيّة». والمراد من الحجّة الشرعيّة هو أن العمل بها يرفع العقاب ويؤمّن العامل به من العذاب الأخروي. فحتّى لو أخطأ المفتي أو القاضي أو السلطان، أو كان قولهم غير مطابق للواقع.

يتّضح إذن عدم وجود تلازم بين الحجّة الشرعيّة والانطباق مع الواقع. وبالتالي إذا رجع شخصٌ إلى المفتي والقاضي والسلطان، مِن الذين تتوافر فيهم الشروط الشرعية اللازمة، ولكن أهمل فتوى المفتي أو حكم القاضي أو السلطان، وترك «الحجّة الشرعيّة»فإنّه آثِم. على غير المتخصص في الأحكام الشرعية الرجوع إلى المجتهد الذي تتوافر فيه الشرائط، وعليه التقليد في دائرة الأحكام الشرعية غير الضرورية، ولا يحقّ له العمل وفق ما يحلو له، وأن يهمل رأي المفتي. والمتنازعان في أمرٍ ما، إذا رجعوا إلى الحاكم الشرعي عليهم الخضوع لرأي القاضي الذي تتوافر فيه الشرائط، ولا يحقّ لهما نقض حكم الحاكم الشرعي بعد صدوره بحجّة أن الحكم لا يراعي مصالحهم. وهكذا الأمر بالنسبة لأوامر السلطان الذي تتوافر فيه الشرائط؛ وإن لم يكن الأمر كذلك لعمَّت الفوضى والهرج والمرج في النظام، وهذا ما لا يقبل به الشّارع.

ولكنَّ (وألفُ لكنّ أخرى)، الأخذ بقول المفتي أو القاضي أو السلطان الذين تتوافر فيهم الشرائط، وعَدّه حجّة شرعيّة لا يعني بأنَّ «إطاعتهم المطلقة» قد أصبحت أمراً واجباً. لأنَّه أوّلاً: لا يُقبل رأي المفتي إلا فيما يتعلّق ببيان الأحكام الشرعيّة (الفتاوى)، ومثلما يكون رأي القاضي غير مُتَّبعٍ إلا فيما يخصّ النزاع والمخاصمة، وهكذا رأي السلطان في الشأن العام. وكلّ ما يقع خارج هذه الحدود المذكورة فسيكون رأي المفتي والقاضي والسلطان فيه فاقداً للاعتبار الشرعي. وبعبارةٍ أخرى هذه المناصب الشرعية ليس لها صلاحيات مطلقة، بل إن حدود صلاحياتها واختياراتها محدودة ومقيّدة، وإن إطاعتها أيضاً مقيّدة بهذه الحدود. وثانياً: يُتَّبَع رأي المفتي والقاضي والسلطان الذين تتوافر فيهم الشرائط في الحدود الشرعية المعتبرة شرط أن يكون الرأي الصّادر غير معصية.

 

ثلاثة قيود لكلّ الاطاعات الشرعيّة

وبعبارةٍ أخرى يجب توفر ثلاثة شروطٍ في أيّ إطاعةٍ شرعيّة: الحسن الفاعلي والحسن الفعلي، الحدود، واعتبار الأمر. هذه القيود الثلاثة مستقلّة عن بعضها الآخر، وليس لأيّ واحدةٍ منها أن تغنينا عن الأخرى. ومن الواضح أيضاً أن الحسن الفاعلي والحسن الفعلي مرتبطان، ولكن لا يمكن بالتعويلِ على الحسن الفاعلي (توافر الشروط في الآمِر) أن نغض البصر عن لزوم تقييم الحسن الفعلي (عدم اقتران الطاعة بالمعصيّة). عندما يرتكب السلطان معصيةً ما قد لا يفقد صلاحيته في ممارسة السلطة، وقد يمكنه الاستمرار في سلطته بعد الاعتراف بالخطأ وتعويض ما سلف، ومن خلال طلب العفو والمغفرة من الباري عزّ وجَل، ولكن رغم بقاء الحسن الفاعلي فإنّه في نفس ذلك الأمر الذي أدّى إلى المعصية، كان غير مُطاعٍ شرعاً. ومِن الواضح أنّه مع استمرار صدور الأوامر المؤدّية إلى المعصية، بنحوٍ يتحوّل الوضع إلى ظاهرةٍ وسنّة سيئة، فإن السلطان سيسقط عن الحسن الفاعلي، وبالتالي يفقد مشروعيته.

ومِن جانبٍ آخر قد يكون السلطان عند مسكه بزمام السلطة واجداً للشرائط الشرعية، ولكن لا يوجَد أيّ ضمانٍ لبقائه واجداً للشرائط بنحوٍ دائم. لا سيّما أنّه لميسبق له أنْ تعرّضَ للابتلاءِ بهذا القدر، إذ أن السلطةبطبيعتها تُفسد الأفراد الاعتياديين وغير المعصومين. وبعبارةٍ أخرى إن واجدية الشرائط تُعد شرطاً لحدوثالسلطة الشرعية، وفي الوقت نفسه شرطاً لبقائها؛ ولذلكمِن اللازِم دوماً فرض الرقابة المستمرة العامة علىالسلطة السياسية، إذ يُمكن ممارسة هذه الرقابة بنحوٍعُقلائي وراسخ ومقنن ليتحصّل اطمئنان دائم من سلامةالسلطة السياسية. على أيّ حال إذا كان المأمور متيقّناًمن أن الأمر الصادر يمثّل معصية، فإن مجرّد صدورالأمر من السلطان الواجد للشرائط لا يُحقق جوازالإطاعة.

ومِن جانبٍ آخر إذا ارتكب السلطان الواجد للشرائطجملةً من الأفعال السياسية الخاطئة، وفقد الشروطالشرعية، فعلى سبيل المثال إذا سقطت عنه العدالة، أوفقد التدبير اللازم لإدارة المجتمع، عندها يتضحُ جليّاًبأنَّ مثل هذا الشخص لا يحقّ له ممارسة السلطةوإصدار الأوامر الحكومية. ولكن إذا رفض التنحّي عنالسلطة لأيّ سببٍ كان، أو استمرّ بممارسة السلطة لحبّهللدنيا أو لأيّ سببٍ آخَر، سيكون أفراد المجتمع عند هذاالحال على نمطَين: فإمّا أنهم قادرون على إصلاح الأمرواستبدال رأس هرم السلطة السياسية، أو أنهم غيرقادرين على ذلك. وإذا كان وضعهم وفقاً للنمط الثانيفإنّهم مجازون فقط بإطاعة تلك الأوامر التي لا تكونمعصية. أي أن هناك موارد حين ينعدم فيها الحسنالفاعلي لدى السلطان، يصبح الحسن الفعلي فيهاملاكاً شرعيّاً في صحّة إطاعتها. أضِف إلى أنّ في زمنهيمنة الجائر لا يوجَد شكّ في عدم توافر الوجاهةالشرعية في السلطة السياسية؛ ولكن في مثل هذاالوقت أيضاً يجب على المؤمن أن يطيع السلطة في تلكالموارد التي لا تؤدّي إلى المعصية فقط، إلا في مواردالتقيّة. وبعبارةٍ أخرى إن القاعدة الشرعيّة القائلة: «لاطاعَةَ لِمَخلُوقٍ فِي مَعصِيَةِ الخَالِقِ»، التي أكّدها أولياءالدين في مواطن عدّة، إنّما هي لازمة الرعاية دوماً.

ثمّة إرشادات جادّة في تعاليم أهل البيت (ع) السياسية، تُنبئ عن الرؤية النافذة لدى الأئمّة (ع) في تشخيصهم مكامن الخللِ في علماء الدين والحلول الضامنة للسَّلامة الدائمية في المجتمع الديني؛ ففي المجتمعات الدينية يتمتّع علماء الدين بمنزلة رفيعة وصلاحيات كثيرة، حيث يأخذ النّاسُ دينَهم منهم، ويقتدون بهم في مختلف القضايا الفردية والاجتماعية، ويطيعون أوامرهم. يترتّب على هذه المنزلة الرفيعة مخاطر عظيمة أيضاً، وعلى علماء الدّين أن يتذكّروا دوماً بأنَّ لهم «الطريقية» في هداية النّاس، وليس لهم «الموضوعية» مطلقاً، وعليهم أنْ يظلّوا معالِمَ ونبراس للهداية. ولكن إذا دعوا النّاسَ إلى أنفسهم بدلاً عن الدعوةِ إلى الله، وإذا قدّموا أنفسَهم معياراً للحقّ والباطل بدلاً عن تقييم الأمور طبقاً لمعايير الدين وضوابطه، وإذا جعلوا اتّباعَهم اتّباعاً لله، ومخالفتهم مخالفةً لله، ولا سيّما إذا مسكوا بالسلطة السياسية في المجتمع، عندها سيهبطون من منار الهداية ويمسون عائقاً أمام سبيل الرشاد ووسيلةً للضَّلال.

لقد حذّر القرآن الكريم من هذا الخطر قبل أيّ أحدٍ آخر: «إِتَّخَذُوا أَحبَارَهُم وَ رُهبَانَهُم أَربَابَاً مِن دُونِ‌اللهِ»هل يا ترى اتخذ اليهود والنصارى فِعلاً أحبارَهم ورهبانهم والبابوات والقديسيين آلهةً مِن دون الله، وهل كانوا يسجدون لهم؟ صرّح أئمّةُ أهل البيت في تفسير هذه الآية: «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولودعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّمواعليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون.» و« أنَّهمما اتخذوهم أرباباً في الحقيقة، لكنّهم دخلوا تحتطاعتهم فصاروا بمنزلة من اتخذهم أرباباً.»

وفي جوابه المكتوب إلى المأمون في باب الشريعة استند الإمام عليّ الرضا (ع) إلى روايات عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) والنبيّ الأكرم (ص)، مشيراً إلى قاعدةٍ في بالغ الأهميّة:  «قالَ أميرُ المؤمنينَ: مَا صَامُوا لَهُم وَلَا صَلُّوا، لَكِن أَمَرُوهُم بِمَعصِيَةِ اللهِ فَأَطَاعُوهُم. ثُمَّ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ ‌اللهِ يَقُولُ: مَن أَطَاعَ مَخلُوقَاً فِي غَيرِ طَاعَةِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ فَقَد كَفَرَ وَاتَّخَذَ إِلَهَاً مِن دُونِ اللهِ.»

وإذن إن إحدى العاهات الجادّة في المجتمع الديني هي أنْ يتحوّل علماء الدين إلى «أرباب مِن دون الله»، وأن يُطاعوا طاعةً عمياء، وأن يتّبعهم النّاس ويطيعونهم بنحوٍ مطلق. وهؤلاء أيضاً بدورهم يحللون حراماً أو يحرّمون حلالاً، ويأمرون بمعصية الله، وعندئذٍ يتّبعهم النّاس طبقاً لعادتهم السابقة وهم لا يشعرون. ولكنّ النّاس إذا عرفوا مِن المنتسبين إلى الدين «الفسق الظاهر، والعصبيّة الشديدة، والتكالب على الدنيا وحرامها» عندها لا يحقّ لهم اتّباع مثل هؤلاء الأفراد. فإنَّ أولياء الدين (ع) افترضوا وقوع مثل هذه البليّة في المجتمع الديني، وراحوا يضعون تنظيماً دقيقاً لضوابط الطاعة الشرعية، ضماناً لسلامة السلوك الديني. ولتشخيص وجود المعصية في أوامر العلماء من عدمه لا توجد طريقة سوى مراقبة أعمالهم وسلوكهم؛ على أن تكون رقابة معقولة وعن عِلمٍ ودراية. على المجتمع الديني مراقبة أقوال وسلوكيات علماءه بفائق الدقة، وأن يقيس المجتمعُ هذه الأقوالَ والسلوكيات بالضوابط الدينية، وما إنْ استشعرَ الانحراف، عليه التوقف عن أخذ الدين من هؤلاء.

على المجتمع الديني أن يبحث عن الذي يستمع إليه ويتّبعه، وعَمَّن يسلك طريقه. يروي الإمام عليّ الرضا (ع) عن آبائه، نقلاً عن النبيّ الأكرم (ص) أنّه قال: «مَن أَصغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَد عَبَدَه، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ مِنَ اللهِ فَقَد عَبَدَ اللهَ، وَإِن كَانَ النَّاطِقُ مِنَ إِبلِيس فَقَد عَبَدَ إِبلِيس.» حين تكون مسألة الاستماع والاصغاء خطيرة وحساسة بهذا القدر يتّضحُ بأن قضيّة الاتّباع والإطاعة والامتثال والانقياد تمتاز بنحوٍ أولى من حساسيّة ودقّة وأهميّة بالغة.

وقد اتّضح من مُجمَل ما تقدَّم بأنَّ مجموعة التعاليم الدينية لا يوجد فيها قاعدة بعنوان «المَأمُورُ مَعذُورٌ».وطبقاً للشَّرع لا يوجَد أيَّ مأمورٍ معذور، بل يجب عليه ألّا يعمل بالأوامر المخالفة للشَّرع. وفيما يتعلّق بأوامر البشر الاعتياديين العبارة القائلة بأنَّ «أوامر السلطان هي كأوامر الله» إنما هو شعارٌ مغاير للتعاليم الدينية.

 

(Visited 20 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *