نزال الجسد في معارك جوزيف بويز

نزال الجسد في معارك جوزيف بويز

في برفورمانس بويز يبدو الجسدُ حوضاً زجاجياً، فيما
يتراقص في داخلِهِ الخرابُ الإنسانيُّ أجملَ سمكةِ زينة،
كيف لا وهو القائلُ بأنَّ الفنَّ هو إمكانيةُ الفنانِ على
افتراسِ جسدِهِ بمخالبِ عصرِه في معرضِ حديثِها عن
آلياتِ اشتغالِ البرفورمانس تقولُ مارينا أبراموفيتش: أنَّ
جوزيف بويز هو من جعلَ للجسدِ حضوراً فنِّيّاً لافتاً،
فمعَهُ أوَّلَ مرةٍ في تاريخ الفنِّ عرفَ الجسدُ متى يكونُ
عماً فنياً، وبحسبِ ما هو معروفٌ عن سيرةِ الفنَّانِ من
أنَّهُ قد استعادَ حياتَهُ بالمصادفةِ، علي يدِ فاّح ألمانيّ،
بعد أن سقطَ من طائرةٍ حربيةٍ، لذا عمدَ بويز في
صناعةِ أعمالِهِ إلى استعمالِ موادٍّ مؤكدةِ الزوال، إذ الفنُ
لديهِ هو المصادفةُ، وليس ثمةَ مختبرٌ للمصادفاتِ سوى
الجسدِ، ويعدُّ برفورمانس “الذئبَ والرجلَ المتخفي”
عتبةَ ولوجِ إمبراطوريةِ الجسدِ البويزي.
يعتمد الجسد في مناجاة مأزقه حضور البُعد الطيفي
للكارثة التي ساعدت على تحويله إلى حكاية مروية في
هوامش الوجود الأول، فكثيراً ما يرتكز على المراوغة،
مالئاً بها فراغهِ المُلغى بحجة عدم الوثوق بطاقته
المُطهَّرة بوصايا السلطة القائمة على ضرورة محوه.
في أعمال جوزيف بويز حدث تبادل أدوار مرتّب بغواية
المشهد الحياتي لمرآة العرض، والذي في المشاركة
وجسد الفنان أحدث احتكاكاً تثاقفياً قائماً على استفزاز
المتحول اليومي أي الأمكنة وتحريكها بالمتحول الثقافي
الذي هو الجسد، وهذا الأخير هو فرجار زمكاني،
يضطلع بمهمة رسم الخطوط وهندستها، فالجسد هو
مهندس اجتماعي تُحدّد خبرته بقوة تشاكله وتداعيات
المصير الإنساني، ثمة خصيصة يتمتع بها الجسد، إذ
لديه إمكانية عجيبة في التشهير بالخراب وفضحه، كونه
يتربع على كنز معلوماتي يحاكي أغلب الحقول الجمالية
والإنسانية، فمن دونه لن نتعرّف على مجازر البوسنة،
ولن تصلنا أخبار ما حدث في جنوب السودان، كذلك
لولا ضحايا المفخخات والأحزمة الناسفة لما تكشّفت لنا
خفايا المأزق العراقي، من هذا نفهم أن فطنة الجسد
تؤهله لأن يتلاعب حتى بالأمكنة،
وهذا ما تأكد في برفورمانس بويز
حيث سعى إلى استفزاز جسد الحياة
الذي هو المكان بالجسد المادي
نفسهما أدى إلى خلق نوع من
الملاقحة الارتدادية، أي أن المكان
قد ارتد على جسده اليومي، وقد
حدث ذلك نتيجة ارتداد الجسد
نفسه عن شبحيته المرافقة لما
يحمل من فلسفة مكانية من
هذا التلاقح الطيفي المُتشكِّل من
جسدنة الخطاب الجمالي للعرض،
يتضح لنا حضور عارض ثالث
مشارك في عملية العرض ألا وهو
جسد المتلقي، ففي عروض الأداء
يحضر المتلقي بجسده ليس كزائرٍ
وحسب، إنما يحضر بوصفه عارضاً
لابد من مشاركته في اللعبة، لكنه يحتاج إلى امتصاص
جسد المرحلة ليتعرف من خلاله على جسده، فيجمعه
من ثقافة المكان المُشفَّرة بشجاعة جسد العارض،
إذن في عروض الأداء تكون مهمة المتلقي هو إنتاج
الجسد الجماعي الحامل لأدنى تفاصيل العرض، وكما
يقول جورج فوكس أن الحركة الإيقاعية للجسد البشري
داخل الفضاء قادرة على إصابة أشخاص آخرين
باهتزازات مماثلة أو مشابهة إيقاعياً لتضع الجميع في
نفس حالة النشوة، بيد أن ذلك لا يتحقّق من دون
تطوير الاستفزاز نفسه، بمعنى أن يكون الجسد ذا خبرة
عالية في مخالطته للمكان قبل الوجود فيه، وهذا عينه
ما سعى إليه المخرج كلاوس جروبر في عرض “خراب”
الذي قدمه داخل أنقاض فندق إسبلاندة، وغيره من
المخرجين الذين اشتغلوا على ثقافة تفعيل دور الأماكن
المُستفَزة بالجسد أمثال المخرج رينهاردت الذي قدم
عرضاً لنص شكسبير “حلم ليلة صيف” في غابة
صنوبرية وقعت فيها الكثير من المجازر بحق الفلاحين،
وغيره من المخرجين أمثال غروتوفسكي وكانتور، هنا
يأتي دور الجسد لاستجواب المكان، أي توجيه سؤال
إلى الحادثة بوصفها ذاكرة مكانية
أو علامة غائبة تُفعل بحضور
المستجوب الإيقوني الذي هو
الجسد ويمكن أن نقول بأن الجسد
هو المجاز الضمني لثقافة المكان
مهما كانت الجفرافية العلاميّة التي
ينتسب إليها، وأعني بالجغرافية
العلامية هي ذلك الخزين الثقافي
الذي يمتصه الجسد، ويتشكّل عبره
الصوت الداخلي لكل شعب أو قومية،
إذ الجسد هو مادة الوجود الخاص
بحسب هيلموت بلاسنر وهذه
المادة الخاصة ذات مزية لسانية أي
أنها قادرة على التعايش مع الحالة
أياً كانت للتعبير عنها وطرحها
على طاولة، مرة تكون موائمة
للظرفيتين ومرة للتشهير بهما،
فالظرفيتان وبخاصة المكان، نادراً ما يكونان تحت
سلطة العقل، وهذا ما نفهمه من طروحات فوكو في
تعرضه لموضوعة بناء السجون، بينما يجيء دور الجسد
لقول كلمة العته والجنون، بهكذا رؤى ضيقة وسعت
السلطات من مجال نظرتها للجسد كجانب قيمي،
انطلاقاً من هذه الهيمنات سعى جورج ليكون إلى
مجانبة الطروحة الفوكوية في سلسة تناولاته المعرفية
لموضوعة الجسد العقل، حيت عَدّ هذا الأخير بأنه
غير مُجسدن، وبما أنه مستفرغ من الجسدية فمن
المؤكد أن سلطته ستكون أكيدة، ذلك لافتقاره إلى
عنصر الملامسة، فالفكر يثير الأسئلة لكنه لا يلامس
أبداً، فثمة كائن مفترض الوجود من قبل الخيال
معني بهذه الممارسة، لهذا نجد أن العلوم الإنسانية
انصهرت في رعايتها لثقافة الجسد أكثر من العلوم
العقلية، ذلك لأن العقل يتعامل مع الممكن المستحيل،
فيما ينصب اهتمام الجسد على مستحيل المستحيل,
فما تؤكده حالات الجنون يشي بأسرار الطاقة العقلية
للجسد، إذ من الجنون فقط يكتسب العقل جسدنته،
أي يتحول إلى معمل مخيالي، كذلك يمكن للمكان أن
يتخيّل وجوده بوساطة الجسد.
إن الحالات الاستثنائية التي يستحيل فيها الجسد إلى
ظاهرة مكانية جد قليلة، ويمكن اعتبار الجنون الحالة
الأهم والأقرب للمستثنى، ذلك لأن المجنون يسيطر
على المكان بوصفهِ عقاً متغلغاً في منظومة فكر
الآخر النابذ لشذوذ فعل الجسد المُعقلن بالرفض للعقل
القطيعي، هذا يدل على أن المكان خاضع دائماً لدعوات
العقل وملبياً لندائه، لهذا نجد أن الأمكنة المحكومة
بتواجد المجانين تخلخل نظام العقل وتثير الفوضى
في مدن الأفكار السلطوية، مما يؤدي إلى اعتبار هذه
الأماكن مناطق عزل وجريمة، كون العقل فيها مُصادر،
يعني أن خطورتها مؤكدة، ذلك لأن ما يصدر عن
المجنون هو جريمة لكنها غير مُعقلنة، وكل ماهو غير
معقلن يُحار التعامل معه، وقد تعلن القوانين عجزها
آنذاك، في فلم أحدهم طار فوق عش الوقواق الحائز
على جوائز الأكاديمية الخمس للمخرج ميلوش فورمان
وعن رواية كين كيسي، يفتح الجنون ذراعيه للمكان
ويستقبله بمخيالٍ جسدي، فتصوير الفلم في مشفى
دليلٌ على زعمنا القائل بأن العقل يُجسدن بالجنون،
فثيمة الفلم تقول بأن المكان هو معطى عقلي، ولكي
يتم نفي هذا المعطى يتوجب علينا جسدنته وليس
ثمة طاقة غير الجنون قادرة على تفتيت صخرته، ثم أن
تصوير الفلم هناك يوحي بتوجيه إدانة للعقل باعتباره
المحرّض الأول والأخير على ضرورة الحجز، وتصدير
الأحكام الداعية لذلك، على ضوء ذلك يجوز لنا القول
بعقلية المكان، بيد أن ضرب العقل يتطلب حضور
جسد نيتشوي مُفكّر، يجب الاشارة هنا إلى أن فن
الأداء يعتمد على ركيزتين مهمتين هما الجسد والمكان
وليس الجسد وحسب كما يظن البعض، فالتهاون في
اختيار المكان تصريح بعقلنة الجسد مايعني التسليم
بموته المحتوم، على ضوء ذلك يمكننا تعريف عروض
الأداء على أنها حالة استثنائية يستهدف بها الجسد
العقل من خال اصطياد المكان المناسب والمُستفَّز.
في فيلم بويز الذي يُصنف في خانة الوثائقيات، برع
المخرج أندريس فييل في استنطاق سيرة الخيال، من
خال سبر العوالم الحياتية المُساهمة في تشكّل تجربة
بويز الفنية، حيث وُظِفت كل إمكانيات سينما البوتريه
الحي وليس المستضاف أو المستدعى بممثل، كما
يحصل في نوع من الأفام السيرذاتية، لأن تشريح
شخصية كجوزيف بويز تحتاج لحضور الظل ومصدره،
ومن دون ذلك تصاب الوثيقة بالتآكل وعدم الوثوق
بها، فما يحمله من تناقضات وجنون ومشاكسة
على مستوى السلوك والفن، تجعلنا في شك دائم
من عدم تمكّن أي ممثل من بلوغ سرّه، ذلك لأن
التجربة جنون، وكل تجسيد لها هو عقلنة، إضافة إلى
كسره زجاجة الحياة بحجارة الزمن المتمثلة بشهادات
المعاصرين، تمكّن فييل من مطاردة بويز والتعرض
لأهم أطروحاته من قبيل نظرية النحت الاجتماعي التي
أصبحت العمود الفقري لصوريات مابعد الحداثة، ففيها
أخرج الفن من غرور الأشكال الميتة إلى حلبة الصراع
مع الإنسان والتلاحم معه. بهذا يكون بويز قد أعاد
خلق دوشامب من جديد، لكن هذه المرّة بحلّة أكثر
شراسة ومصادمة مع السائد.

(Visited 9 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *