سعود الزدجالي – كاتب عماني
لا يمكن للمرء أن يزعم أن الحقيقة واحدة، وطرق الوصول إليها تتمثل في طريقة تفكير محددة وهو يعيش حالة التعدد والاختلاف الطبيعي الإنساني إلى حدّ التباين والتناقض والتضاد؛ إلا عند اعتبار “الإيمان” منتجا معلوم المواصفات ومعلبا جاهزا في جماعة أيديولوجية معينة؛ لذا فإن أصول التراث الإسلامي توقفت على ما للتقليد من أثر في إنتاج إيمان جاهز يجعل “المؤمن” غير قادر على مواجهة الشبهات؛ لأنه لم يبن الإيمان بذاته وإنما تلقاه بالتقليد والوراثة، فهو لا يتقن مفرداته ولا يحسن استدلالاته، ولا يورد دعواه ولا يبني براهينه أو مصادراته، ومفردات الإيمان في القرآن تتكئ على المنطق الطبيعي وهي مفردات بسيطة كما كان يرى ابن رشد، وهو (أي الإنسان) والحال هذه إما أن يجدد بناء الإيمان ويتحمل العبء الفكري والعقلي والنفسي إزاءه، وإما أن يركن إلى الهدوء والرتابة والتقليد، بيد أن الأخير لم يعد ممكنا والعالم يموج بمواقع التواصل الاجتماعي في سابقة للإنسانية مختلفة لا يمكن تجاهلها؛ ولا سبيل إلى “إيمان جمعي” أو رسمي إلا بالتقليد، وفي الحالة هذه فإن الحريات في ظل الدولة المدنية تلعب دورها في إظهار التعدد الثقافي وإظهار هشاشة التدين الرسمي الذي يتكئ في كل حقب التاريخ إلى السلطة والتحريض والدعوة إلى اعتقال الناس ونفيهم فتلك قذارة يجب أن تنتهي؛ إذ إن أكثر المشكلات في الأديان كان مأتاها من “المَأسسة الدينية” (بفتح الميم) وتاليا من المأسسة السياسية للدين، وكلّ تغير في الرسالة الروحية بتحويله إلى سلطة أو مادة للاستثمار السياسي، تولدت من سيرورة “الكهنتة” خضع الدين لها من قبل من انتدبوا أنفسهم لمهمة تمثيله والنطق باسمه والتنزل من نظامه منزلة الوسيط بين المؤمنين والنص الديني؛ فقدموا سردية خاصة وفرضوها بوصفها رواية رسمية يعد الطعن على مخالفيها بالابتداع والهرطقة فاحتكروا التأويل، ووضعوا المقاييس والمعايير وقرروا من ينتمي إلى الملة ومن هو خارج عنها فرخصوا لأنفسهم أن يأتوا أفعالا كبارا مثل التكفير محرضين الجماهير في مجتمعات يمثل الدين فيها ثقافة جمعية ويسهل انقياد الناس إلى أفكار التحريض الذي أصبح ممارسة سائدة على مواقع التواصل الاجتماعية بفعل تلك الكهنتة (بلقزيز، 2018: 9)
ولكن؛ من الذي يبني الإيمان بالله تعالى؟ ومن هو المسؤول عنه مسؤولية أخلاقية أمام الله عند المؤمنين باليوم الآخر والحساب؟ هل يعد الفرد المسلم وفق إرادته ومسؤوليته الأخلاقية هو المسؤول عن بناء الإيمان أم أنه يتلقاه جاهزا ومعلبا من المؤسسات الدينية والنسخ الرسمية للإسلام على مدار التاريخ؟ وفي حال أن الفرد يستعير إيمانه بالله من المؤسسة بوصفه منتجا جاهزا خاليا من الشوائب والأسئلة؛ فكيف تكون مسؤوليته الفردية أمام الله تعالى أيمكن للمؤسسة أن تشفع له وهو في الحساب من حيث تعطلت إرادته؟
إننا عندما نعود إلى أصول التراث الإسلامي لا في مضامينه وإنما في منهجياته وطرق تفكيره؛ نلاحظ أن “العقل” يلعب دور الأولاني في تلقي النص؛ وأن التقليد لا ينتج إلا إيمانا مغلفا لا يدرك الفرد أساليب صناعته ولا إشكالاته حتى يواجه الشبهات؛ مما يجعل الإنسان هشا أمام مسالك الشبهات بتعبير الأوساط الدينية؛ فهو لا يستطيع ترميم هذا الإيمان ولا إعادة إنتاجه فإما أن يرميه برمته ويتخلص منه، وإما أن يتوسل التحريض والانطواء على ذاته والاستعانة بذات المؤسسة لينقذ عقله من عسف الأسئلة ورياح النظريات؛ وهو يكتفي إذّاك بكل خطاب رتيب عاطفي ينتجه الوسط الديني القائم على إنتاج التأويلات عبر اجترار القديم من المؤلفات التقليدية؛ لقد انتبه التراث الكلامي القديم الذي كان أكثر حداثة من الكهنتة الدينية اليوم إلى مسألة التقليد وأثره السلبي في الفرد من حيث إن الإيمان استدلال لا سيما وأن الإنسان الفاعل اليوم إزاء أسئلة الدين وكينونة الإنسان قد حصل على حظ من التعليم تجاوز به درجة التقليد والرتابة؛ فلو كان التقليد لأي جماعة دينية طريق الإيمان بالله وهو الحصن من الوقوع في الشبهات فإن الناتج الفعلي له هو الإيمان بشيء والإيمان بنقيضه أيضا، وهو إشكال منطقي يعيدنا إلى أن الاختلاف سنة إنسانية ماضية؛ إذ يقول أبو منصور في التوحيد: “فإنا وجدنا الناس مختلفي المذاهب في النحل في الدين متفقين على اختلافهم في الدين على كلمة واحدة: أن الذي هو عليه حق والذي عليه غيره باطل على اتفاق جملتهم في أن كلا منهم له سلف يقلد؛ فثبت أن التقليد ليس مما يعذر صاحبه لإصابة مثله ضده” (أبو منصور، 2010: 65- 66)؛ بيد أن الأمر ليس بتلك البساطة أمام تعقد المؤسسات الدينية وتوغلها وتوسلها بأدوات مختلفة خارج إطار المنهجيات وسبل الحوار؛ إذ تستعيض – كما قد أسلفت قبل قليل – بأدوات لا تقل ضراوة مما يمكن أن يكون شمولية أو كلانية (توتاليتارية دينية) يعجز الفرد عن مجابهتها؛ فمجرد التفكير في الفضاء الديني أو الاجتماعي في الظاهرة الدينية (ونعني بها ناتج الجمع من النص والتأويلات والتاريخ) يحاط الفرد بدوائر مختلفة من التضييق فتتحرك خيوط خفية تجعل المسرح يضج بالدمى الفاعلة على سطح الركح تضخ التخويف من الاقتراب، وتتضافر مع القوى الأكثر شعبوية تتوسل درجة عالية من الدوغما حتى تغتال الأسئلة في مهدها فيعيش الإنسان حالة الإيمان الزائف الذي رفضه القرآن العظيم وجعله أنتن من الكفر ذاته فيعيش الإنسان حالة نفسية وهو يواجه معطيات التغير الاجتماعي ومبتدهات الوعي والعلم.
ولكن؛ هل يعدّ الحراك السلبي ممن ينصّب نفسه المدافع عن الدين تجاه الإنسان وأسئلته الكبرى بما هو فرد يعيش التجربة الدينية حراكا ينطلق من النوايا الحسنة أم من العجز في فهم المنهجيات ومواجهة التقليد أم هو محافظة على المصالح عندما أصبح الدين مجالا عاما وحقلا به نحصل على الوظيفة الشرفية؟
حين نعود إلى ظاهرة “التكوين التعليمي” للإنسان في البلاد العربية إذ يُنشأ الطالب العربي في سني دراسته للدخول في أسواق العمل والحصول على الوظيفة، والطالب يدخل في مفترق الطرق فور انتهائه من المدرسة؛ ومصيره يعتمد اعتمادا كليا على الفرص المتوفرة ودرجاته في المدرسة، وهو تحت ضغط الظروف الاجتماعية والاقتصادية وما توفره الدولة من حقول جامعية؛ ويلاحظ أن الطالب الضعيف في الحقول الرياضية والعلمية يتجه شطر الدراسات الدينية لعله ينال حظا من النُجح بعد عجزه في التخصصات العلمية وهو ما إن ينتهي من الحصول على الدرجة الجامعية في المجال الديني حتى يتحول إلى راغب في وظيفة دينية بحكم دراسته فينضم إلى “أهل الاختصاص” الذين يشكلون الواسطة بين الفرد والنص الشرعي حتى لو كان الفرد الآخر متفوقا في الفيزياء والرياضيات وقادرا على فهم النص الشرعي بعيدا عن المحرضات الأيديولوجية لا سيما وأن العبادات مدونة لا اجتهاد فيها؛ فإن الطالب الذي لم يجد تخصصا لدراسته سوى المجال الشرعي هو الحكم الفصل فينال بفضل درجته الجامعية ووظيفته الدينية قدسية ويصنف في “العلماء الربانيين” الذين يحافظون على الدين فتتضخم فيهم الأنا وسط ضجيج ينسى فيه الفرد كل العمليات السابقة لإنتاج الإنسان إزاء سوق العمل؛ وينتج هذا الوضع أمرين مهمين كما لاحظ عبدالإله بلقزيز في نقد الكهنتة: الأول: الكهنتة التي أشرنا إليها، وهي ضرب من الوصاية السلطوية بسبب حصول الإنسان على حظ من التعليم الديني في مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي، وبسبب الانتماء إلى المؤسسة الدينية ذات الطابع السلطوي، والثاني يتمثل في منع الأسئلة والدراسات فأصبح المجال الديني جامدا وتقليديا لا يتناسب مع تغيرات التفكير، ولا أدل على هذه الوضعية في مجتمعنا من مجموع الخطابات التي تنتج لمجابهة تلك الدراسات والأسئلة ولعل الأقرب ما أنتجه أحد المنتمين إلى الأوساط الدينية وحجم التجييش حوله وهو لا يعدو من كونه خاطرة أو مقالا إنشائيا لا يقدم ولا يؤخر؛ أو تلك المساحة على تويتر لقراءة كتاب “مصرع الإلحاد” ليدرك المرء حجم الهشاشة التي يتسم بها هذا الخطاب وهو ينوي مناقشة أعظم الأسئلة التي تشغل الإنسان في كل تاريخه.
ويتوسل هذا الخطاب الديني التقليدي مجموعة من الأدوات التي تجعله عاجزا عن الدفاع عن نفسه فضلا عن الدفاع عن العقيدة أو الدين؛ وهو يواجه أعتى التناقضات بسبب درجة التمكن لدى أصحابه من المناهج العلمية والتحليلية؛ والتي لا تنجح لفهم الظاهرة الدينية وتفسير إشكالاته إلا بمناهج مركبة وبينية بين حقول صعبة؛ لأن الدين يريد الإجابة عن أسئلة حيوية ومتجددة، ولعل من بين ما يتكئ عليه هذا الخطاب علاوة على إجاباته الرتيبة مفردات من مثل “الفطرة”؛ فلو أن الإيمان فطري ومن المستبدهات لتساوى الناس جميعا كما يتساوون في الرغبة والنزوات؛ كما أن الإنسان كائن لا يتجزأ؛ فالعقل الذي يقصيه هذا الخطاب ويعطله هو جزء أصيل في الفطرة ذاتها؛ مما يجعل هذا الخطاب يدخل في مناطق ضيقة تجبره على العودة إلى الوعظ؛ والعاطفة، ولا يثير الاستغراب عندما تجد أحدهم يتحدث عن أمر بالغ البساطة يزج فيه بنظرية فرويد أو مفردات فلسفية ليعلن للأوساط الدينية الشعبوية أنه يتقن مناهج الحداثة في الوقت الذي لو تمعن في الأمر لأدرك أنه ليس بحاجة إلى النظرية بكاملها في تفسير الجزئية التي يريدها؛ لذا فإن الخطاب السائد ما يزال ينتج حزمة من التناقضات؛ أولها: تلقين الفرد في صفوف التعليمي المدرسي أن عليه أن يتسلح بأدوات التفكير النقدي، ولكنه ما إن يضع الأسئلة قيد التداول حتى يواجه بسيل من المنع والاتهام؛ لأنه في الوقت ذاته غير قادر على التعامل مع الدين إلا من خلال الحاصلين على الدرجة الجامعية في العلوم الشرعية وانضموا إلى المؤسسة الدينية ومنحوا ذواتهم الحق الكامل في التعامل مع النص.
وعندما نعود إلى الفرد المسلم نلاحظ أنه حصل على الإيمان جاهزا من النسخة الرسمية للدين، وليس لهذا الفرد أن يعيد التفكير على الرغم من حصوله على درجة عالية من التعليم، أو من أنه أعلى ذكاء وتحصيلا من الفئة الأولى الحاصلة على التعليم الشرعي وهو ما يؤهلها لبناء عقيدة وإيمان من منطلق تحريم التقليد إلا أنه غالبا يكتفي بالجاهز المعلب، وتتولد عنده مجموعة من الإشكالات فيتحول الإيمان من كونه وعيا بالكون والخالق إلى أداة لتصنيف الناس في ظل الولاية والبراءة وتختلط السياقات ونصوص السلم بنصوص الحرب؛ وهو أمر دائم التناقض مع المواطنة والتعايش، والأغرب أن الأوساط الدينية عندما تدعي أن الفرد لا يستطيع فهم النص دون أهل الاختصاص يقدم المؤلفات الجدلية التي يصعب التعامل معها؛ لأن ذلك يجعل المسلم محاطا بالسياج الدوغمائي طبقا لوصف أركون.
ولما كان الإيمان معلبا وجاهزا وتقليديا لم يشارك المسلم في بنائه فإنه يحمله هشا لا يستطيع به مواجهة التيارات؛ علاوة على أن أغلب مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي من فئة الشباب فإن وُوجِه بمجموعة أسئلة تتعلق بالكون والخالق استنجد بأهل الاختصاص فتدخل الأنا الدينية إنقاذا لهذا الإيمان من مغبة المواجهة ولكنه يقدم نفسه لا ليجيب عن الأسئلة وإنما ليزيد الفجوة ويضخم المشكلة؛ وهو إزاء ذلك إما أن يريح ذاته بالوهم المؤقت حتى تتجدد الأسئلة وإما أن يترك هذا الخطاب ولا يكترث به البتة، ولكن السؤال الأهم: من يخاطب القرآن العظيم في كل نصوصه بالتأمل والاستلال؟ هل يخاطب هؤلاء الذين يحتكرون التأويل لمجرد الحصول على درجة جامعية في العلوم الشرعية وحصلوا على وظيفة دينية؟ ماذا كان يمكن أن يحدث لو أنك لم تدرس الطب ولا الهندسة ولا الكيمياء وحصلت على الدرجة في العلوم الشرعية أليس هذا سببا كافيا لتكون أنت مكان أهل الاختصاص؟ هل يعد هذا شرطا في الكتاب لفهم النص؟
ومن غرائب الوقائع توسل الخطاب الديني الأدوات التقليدية لابتزاز الاهتمام بنص مثل كتاب “مصرع الإلحاد” لأنه تعرض للقراءة النقدية وكأن الله خلق هذا الكتاب ليكون هو ومؤلفه بمنأى من القراءة النقدية، وإنني إذ أستبعد أن يفكر مؤلفه هذا التفكير ليضاهي بكتابه كتاب الله أجد أن الأوساط الدينية تضره بتقديسه، وتزيد من حجم الفجوة؛ لا سيما وأن في الكتاب إشكالات منهجية وعلمية واستدلالية وكأني بصدر سماحته يتسع بهذا القول وهو يدرك أن الدخول في معترك مناقشة الإلحاد بحاجة إلى فهم المنطق والفلسفة، ولا يعتمد على كتاب معظم محتواه النقل دونما هضم لنظرياته وإشكالاته؛ فلوحظ أن أحد الأكاديميين الذين لا دراية له لا بالمنطق ولا بعلم الكلام ولا الفلسفة أعلن عن مسابقة لقراءة الكتاب وهذا إشكال بحد ذاته ويندرج تحت التناقض ذاته ويتعارض مع فلسفة التعليم في تقديس المحتوى ويولد العنف في المستقبل؛ لا سيما وأن صاحب المسابقة لا يمتلك القدرة في التعاطي مع مثل هذه الكتب ولن تقدم المسابقة حلا إلا بقدر الترويج للناشر والربح؛ فالكتب منتجات فكرية وليست مقدسات، وأخيرا لم كل هذا الضجيج والقرآن يقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؛ أليست ثنائية الإيمان والإلحاد ثنائية جدلية تحتاج إلى عدة منهجية وحوار وليس التجييش والتحريض والأدوات التقليدية الوعظية والإيمان مسألة فردية؟