سعيد يقطين – كاتب مغربي
كل ما قيل قديما، ويكتب حديثا حول القرآن الكريم اضطلع الميتا نص القرآني بالرد عليه، ودحضه بكيفية واضحة. كما أن ما يكتب راهنا ليس سوى إعادة ما قيل بلغات ومصطلحات جديدة، أو ادعاءات اكتشافات تاريخية ـ نقدية حديثة. لا أهتم كثيرا بهذا النوع من الكتابات العربية أو الأجنبية، ولست معنيا بمساجلتها. لقد كتب عن الاستشراق الشيء الكثير، ولم تؤثر الدعاوى القديمة أو الحديثة في التأثير أو التغيير. لكن ذلك لا يمنع من قراءة تلك الكتابات والاطلاع على «جديد» ما تقدمه من كشوفات من باب الفضول المعرفي، أو مواكبة ما يستجد من آراء وسجالات.
استوقفني وأنا أتصفح محرك البحث عنوان رئيسي مثير، وعناوين فرعية صيغت بعناية للفت الانتباه كما هو جار في مختلف المواقع التي تغريك بما تحمله من عناوين لا تجد تحتها ما يتلاءم معها لأغراض تجارية ودنيئة. كان العنوان لشريط فيديو من منصة اليوتيوب. فدخلت إليه، فوجدت عشرات الصفحات التي تسير في اتجاه ما يحمله هذا العنوان: «من كتب القرآن؟ خمسة مسارات سرية لمؤلفي القرآن».
كان الشريط من خمس وأربعين دقيقة بالفرنسية يقدمه عربي، ولعله مغاربي. لا تخلو لغة التعليق من تضخيم مبالغ فيه عن «آخر» ما ألف حول مؤلفي القرآن، ومن خلال أحكام مطلقة حول قيمته العلمية التي يؤكد «الراوي» من خلالها أنه ورغم مرور خمسة عشر عاما على ظهور الكتاب فإنه لم يتعرض للنقد أو النقض مما يدل على أنه يقدم حقيقة لا لبس فيها بحجج دامغة واكتشافات تنبني على مجهود بذله العديد من المستشرقين منذ أكثر من قرن ونصف، وبناء على آلاف الوثائق. أما الكتاب فهو تحت عنوان: «المسيح ونبيه: أصول القرآن» (2005) لصاحبه إدوار ماري كالي. كان عنوان الفيديو كافيا لانغوائي، ومتابعة الشريط، ثم بعد ذلك البحث عن الكتاب بهدف تحميله سدى. لكن ذلك لم يمنع من الحصول على وجادات من خلال مقالات وحوارات مع المؤلف أبانت لي بجلاء أن توجهه لا يختلف عن سابقيه.
انطلق الراوي من كون كتاب إدوار كالي جاء ليكشف، من جهة، بطلان الكتابات الاستشراقية السابقة حول تأليف القرآن سواء تلك التي ادعت نسبته إلى محمد (ص) مع بعض صحابته، أو التي ربطته بالأصول السورية المسيحية، أو قيدته بالعصر العباسي. ويؤكد، من جهة أخرى، تبعا لأعمال مستشرقين آخرين، وهم من بنى كالي على منطلقهم تصوره بالاستناد إلى وثائق جديدة، أن القرآن الأول، وخاصة ما اتصل منه بالسور الطوال، لم يؤلفه المسلمون بل طائفة يهودية مسيحية معارضة لليهودية والمسيحية معا. وتبعا لذلك يتحدث الراوي عما يسميه «القرآن اليهودي ـ الناصري» الذي هو عبارة عن دعوة العرب إلى تحرير القدس «مملكة الله» من البيزنطيين.
يتبين لمن يتابع الشريط إلى نهايته أن ادعاء العلمية وقول الحقيقة النهائية من خلال الدعاية للكتاب يجعله كتابا مختلفا عن كل الدراسات الاستشراقية السابقة، وأنه يقدم فتحا جديدا في تأكيد مؤلفي القرآن، ودحض تصورات المسلمين عنه. لكن السؤال الذي أطرحه بخصوص هذا التوجه هو: لماذا يبذل بعض المسيحيين كل هذا الجهد، ويكرس بعضهم قسطا كبيرا من حياته للبحث في القرآن وتاريخه ونقده؟ هل الهدف هو البحث عن الحقيقة العلمية التاريخية؟ أم دفاعا عن المسيحية؟ أم نقضا للإسلام؟ لا يختلف هذا المسعى عن كل المساعي التي قدمت إبان ظهور الإسلام، لكن متغيراتها تخضع للتطورات التي تفرضها شروط الصراع السياسي، وما اللغة العاطفية والإغرائية الموظفة في الدعاية لهذا النوع من الخطابات ليست سوى تأكيد لتلك الغايات القديمة الجديدة.
لا حظت من خلال ما توفر لدي من مواد تتصل بالكتاب وصاحبه أن المتلقي المتوجه إليه هو: الإنسان المسلم. بمعنى أن المؤلف لا يتوجه به إلى القارئ المسيحي فهو يتبنى الأطروحة التي يدافع عنها المؤلف. ولكنه يرمي من وراء ذلك إلى تشكيك المسلم في معتقداته بذريعة أن التصور الإسلامي حول القرآن الكريم ليس علميا ولا تاريخيا. فـما يثبته «العلم» وما يؤكده «التاريخ» يناقض ما يؤمن به المسلمون من أن القرآن كلام الله. إن من وراء هذا القصد محاربة اعتقاد باعتقاد آخر، وما ادعاء الحقيقتين العلمية والتاريخية سوى تغطية على ذلك.
في أحد الحوارات التي تستجلي خصوصية هذا «الاكتشاف» الجديد الذي جاء به إدوار كالي وهو يثمن مجهودات بعض المستشرقين الذين دافعوا عن أطروحة «القرآن اليهودي ـ الناصري» وجدته يكشف التناقض الذي يزخر به القرآن الكريم، وهو يقارن بين آيتين من سورة المائدة تتحدثان عن اليهود والنصارى بلغة لا تخلو من سخرية. تقول الآية الأولى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)». إن هذه الآية تدعو المسلمين، كما يفسر، إلى عدم الثقة في اليهود والنصارى معا وعدم التعامل معهم. لكنه يرى في الآية الأخرى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى» (82) تناقضا صارخا: إنها تدعو المسلمين إلى التعامل مع «النصارى» عكس اليهود، ويثبت من وراء ذلك أن القرآن مبني على الكثير من هذه التناقضات. ومن بين التبريرات المقدمة للدفاع عن أطروحة «القرآن اليهودي ـ الناصري»، أن المؤلفين من تلك الطائفة أن النص يدافع عن هؤلاء الناصريين، ويثمن أعمالهم. ولذلك فهو يميز بين المسيحيين والنصارى. لكن المؤلف مع ذلك، وهو يقف على هذا التناقض الصارخ بين الآيتين يساجل ضمنيا، أي في قرارة نفسه القرآن، على اعتبار أنه كلام الله، متناسيا أن القرآن الذي يتحدث عنه من تأليف طائفة. وما دام كذلك كما يدعي، فالتناقض من الطبائع البشرية، ولا تستدعي كل تلك اللغة الساخرة. وهذه من بين التناقضات التي يقع فيها من يتحدثون عن القرآن.
علاوة على ذلك فإن ما اعتبره تناقضا جاء وليد وقوفه على «ويل للمصلين»، وفي تتمة الآية ما يناقض ما يدعو إليه نهائيا. إنه وقف عند حدود كلمة «إنا نصارى» في الآية، ولم يتمها: «إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ. يَقُولُونَ: رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ؟ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)». إن في تعابير: منهم، ولا يستكبرون، وإذا سمعوا، ترى أعينهم… كلها دالة على أنهم مختلفون عن النصارى المستكبرين المعاندين. إن القسيسين والرهبان المشار إليهم (منهم)، وهم ليسوا كل القساوسة والرهبان من طبيعة مختلفة. إنهم اتبعوا الحق، وأعلنوا إيمانهم بما جاء به الرسول. ومثال هؤلاء الرهبان نجده مع المستشرقين. فمنهم من لا يستكبرون، ومنهم من لا يمكن أن يُتخَذوا أولياء وعلماء.
إن الادعاءات ضد الإسلام في الحقيقة هي ضد المسلمين وضد مصلحتهم في التحرر من الغرب. أما الدين فمظلة لإدامة الهيمنة.