سعيد عدنان – كاتب عراقي
لا أريد أنّ فؤاد زكريّا ( 1927 – 2010 ) قد زاول السياسة بوجه من الوجوه ، أو ولج مضيقاً من مضايقها ؛ وإنّما أريد ما كان له من نظر ثاقب في حوادث السياسة ؛ يتنزّل فيه من ظواهرها إلى أسسها الخفيّة ، ويُبين عمّا يكتنفها من غموض . لقد كان دارسو الفلسفة ، في جملتهم ، يُعنون بتاريخها ، وبقضاياها المجردة ، وبما يدعى بالفكر الفلسفيّ الصرف ؛ وقليل منهم من كان ينظر في وقائع الحياة بفكرٍ فلسفي ؛ ليزيدها وضوحاً ، وليصل بين النتائج وأسبابها . بل إنّ كثيراً من دارسي الفلسفة ، وأساتذتها لينصرفون عن الشأن العام ؛ إمّا جهلاً به ، أو خشيةً من عواقب لا قدرة لهم على احتمالها . ولعلّ مغزى الفلسفة ، في أنصع وجوهها ، أن تجعل الإنسان على معرفة واضحة بنفسه ، وبما حوله من وقائع وحوادث ؛ لكي يحيى على بيّنة من أمره ، ولكي لا يُخدع عن نفسه . تلك رسالتها التي لا ينبغي أن تكون لها رسالة غيرها ؛ إذ أرسى معالمها سقراط ، ووقف حياته عليها . فإن قصّرت الفلسفة في ذلك عادت لعباً بالألفاظ والمعاني . وقد كان زكيّ نجيب محمود من أوائل من سلك هذه السبيل في الفكر العربيّ المعاصر ؛ فسلّط أشعّة الفلسفة على قضايا العصر ؛ من أجل أن يُزيل ما يرين عليها من لبس وغموض . ثمّ جاء فؤاد زكريّا ، وقد جعل نُسغاً اجتماعيّاً في درسه الفلسفيّ ؛ فصبّ فكره كلّه على القضايا الاجتماعيّة ؛ يتقصّى أسبابها القريبة والبعيدة ، ويُلقي عليها مزيداً من الضياء . وكلّ ما كتب ، أو ترجم ، حتّى ما كان منه في إطار الفلسفة الصرف ؛ ينطوي على بعد اجتماعيّ يصل بين الفكر المجرّد ووقائع الحياة ؛ من أجل أن يكون الإنسان على بصيرة من أمره ؛ يعرف ما يأخذ ، وما يدع . لقد كان فؤاد زكريّا غزير الأفكار ، غزير الكتابة ؛ قد التقت عنده الغزارة بالجودة ، وسارا معاً تحت ظلال العقل ؛ إنّه من القلّة القليلة ، في هذا العصر ، التي لم تخرج من سلطة العقل إلى سلطة أخرى . كان يرصد ظواهر المجتمع ، ويرصد ظواهر السياسة ؛ ويسعى أن يردّها إلى أصولها ؛ حتّى لا تختلط الأشياء ، وتلتبس الأفكار . فكان أن كتب ( الصحوة الإسلاميّة في الميزان ) يوم أن كان ما يدعى بالصحوة الإسلاميّة في بدء أمره . ثمّ كتب كتابين وثيقي الصلة بأحداث السياسة ووقائعها ؛ الأول : ( العرب والنموذج الأميركي ) الصادر بطبعته الأولى في سنة 1980 عن دار ابن رشد ، والثاني : ( كم عمر الغضب ) الصادر بطبعته الأولى في سنة 1984 ؛ أريد أن أقف عندهما .
كان النموذج الأميركي يدنو من العرب ، على نحو خفيّ ، شيئاّ فشيئاً ، منذ أوائل السبعينيّات ؛ لكي يجد له حيّزاً بين كتّاب السياسة ، وقادة الرأي ، وربّما أُوحي إلى الناس بعامّتهم ، بنحوٍ ما ؛ أن الأخذ بالنمط الأميركي في الحياة شيء حميد العواقب ؛ وكلّ ذلك كان يجري بعين رأس السياسة في مصر ، على ريث ومهل . ورأى فؤاد زكريّا أن الأمر يقتضي من أهل الفكر أن يقفوا عنده ، فشرع يكتب موضّحاً منبّهاً على خطر ما هو قادم ؛ يقول : ( إنّ هناك مدّاً أميركياً داخل عقولنا ونفوسنا .) وإنّ ( هذا المدّ الأميركي الزاحف ، على المستوى السياسيّ والاقتصادي والعسكري ، وعلى المستوى الفردي في عقول الناس ونفوسهم ، هو الذي أقنعني بضرورة الكتابة من أجل تحليل النموذج الأميركي تحليلاً موضوعيّاً ، وإيضاح أبعاده للإنسان العربيّ حتّى يتّخذ موقفه من هذه المسألة الحيويّة بوعي وتبصّر . ) قال ذلك في سنة 1980 ؛ يوم لم يكن الأمر قد استعلن ، وجهر به من يسعى إليه . ومضى يشرح ، ويفسّر ؛ قائلاً : إنّ أميركا ظاهرة فريدة لن تتكرر ؛ أوجدتها أسباب من الجغرافية والتاريخ ؛ لا يتاح لها أن تعاد ؛ فليس بمقدور أيّ بلد آخر أن يقتدي بالنمط الأميركي . ثمّ إنّ هذا النمط ، لو نُظر إليه من داخله ، ليس كاملاً لا نقيصة فيه ؛ بل إنّ جانباً من جوانبه غير إنسانيّ ؛ يقوم على التكالب والتغالب ، وسحق الضعيف ؛ وإنّ ذلك الجانب لهو وجه من وجوه الرأسماليّة ؛ لا انفكاك بينه وبينها . وكلّ من يحسب أن السعادة مرهونة بالنمط الأميركي ؛ إنّما يوهم نفسه ، ويسير ببلده نحو التهلكة . ويوهم نفسه ، هكذا يقول فؤاد زكريّا ، من يظنّ أنّ أميركا تنصر العرب في قضاياهم ، أو تقف بينهم وبين إسرائيل موقف العدل ، أو تُعين بلدانهم على تحقيق نهضة صحيحة ؛ وإنّما هي تقترب منهم لكي تستحوذ على البترول بأدنى الأسعار ، ومن صالحها أن يظلّ العرب بإقتصاد واهن ؛ لا يقوى على النهوض بأعباء مجتمعه . قال كلّ ذلك مع تفصيله وأدلته ، قبل ما يزيد على ثلاثين سنة ؛ متوخّياً به حقّ التنبيه على الخطر المطلّ . غير أنّ الكتاب طُبع ونُشر ، وأُعيدت طباعته من دون أن يُحدث ما كان ينبغي له أن يُحدثه ، ومن دون أن يعي من كان بأيديهم الأمر خطر ما كان مقبلاً عليهم ، ومن دون أن يصنعوا شيئاً في صدّه ؛ حتّى وقع العرب أجمعون بأسوء مما حُذروا منه !
وتشهدُ لفؤاد زكريّا بثُقوب بصيرته ، واستقامة نهجه ، وشدّة حرصه على بني قومه !
ويبقى لا يصرفه الفكر الخالص عن مجرى الحوادث ، ووقائع السياسة ، ويظل قلمه قريباً ممّا يضطرب بين الناس ؛ يزيد الأفكار وضوحاً ، ويدفع عنها اللبس . وكتابه ( كم عمر الغضب ) في الصميم من ذلك ؛ فقد كتب محمّد حسنين هيكل بُعيد مقتل الرئيس السادات كتابه ( خريف الغضب ) ، ونشره أوّلاً على هيئة مقالات في صحيفة ( الوطن ) الكويتيّة ؛ فاستدعى ذلك في ذهن فؤاد زكريّا جملة أفكار ؛ مدارها : الأزمة العقليّة الشاملة التي شوّهت تفكير الحكّام والمحكومين في النصف الثاني من القرن العشرين ؛ ذلك أنّ الأنظمة المستبدّة التي تحجر على الفكر ، وتقيّد خطاه ؛ تُضعف مقدرة الإنسان على إدراك الصواب ، وتعيق التعبير عنه . وشرع يكتب متناولاً ما أثاره ( خريف الغضب ) ؛ فأتمّ ما أراد في عشر مقالات ؛ نشرها أوّلا في صحيفة الوطن ، ثمّ جعلها كتاباً عنوانه ( كم عمر الغضب ) . لقد وقف وقفة فكريّة جريئة عند نظام حياة كان قد سرى في المجتمع والدولة منذ سنة 1952 ، وأبان عمّا أدّى إليه من ضعف ، ورثاثة في بناء الإنسان ، وفي مناحي الحياة كلّها ؛ ليقول إنّ المصيبة ليست في السادات وحده ، وإنّما في النظام كلّه الذي سبق السادات ، والذي أتى بعده ، وما السادات إلّا جزء من نظام أتى به . ثمّ يقول مختتماً كتابه : ( أمّا الهدف الأصلي الذي كنت أسعى إليه فهو أن أحثّ قرائي على أن يفكّروا فيما يرونه حولهم بوعي وتبصّر ، ولا بأس خلال ذلك أن تتزعزع مقدّسات كثيرة ؛ فأولى مراحل العقيدة الصحيحة هي تحطيم الأصنام … إنّ هدفي الحقيقي ليس هيكل ولا السادات ولا عبد الناصر ، بل هو عقولكم أنتم ؛ فمن هذه العقول تأتي الهزيمة أو النصر .)
لقد أحسن فؤاد زكريّا إحساناً كبيراً إذ عالج قضايا تتّصل بالسياسة المعاصرة معالجة فكريّة منهجيّة صحيحة المبنى ؛ ليقول رأياً سديداً بشأنها .
إنّ مدخل الفكر الرصين إلى السياسة أمر نافع مفيد يزيدها وضوحاً ، ويجعل الناس تعي ما لها وما عليها ، وينفي عنها الظلمات ؛ وليس شيء كالظلام يعين على المخادعة ، وينشر الضلال …!