الضوء والنور فى الفن الإسلامى

الضوء والنور فى الفن الإسلامى

د/خالد البغدادى
” الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثل للناس والله بكل شىء عليم ”
صدق الله العظيم الآية 35 سورة النور
يالها من آية تلخص كل الفلسفة الإسلامية بأبعادها الروحية / النورانية / الصوفية فيما عرف بنظرية الفيض الإلاهى على البشر .. عندما تجلى وفاض الله بنوره على الكون فبدأ الخلق وبدأ كل شىء ، ولنتأمل عمق وجلال الصور الذهنية / الفكرية / الفلسفية فى هذه الأية التى تتحدث عن مفهوم ومعنى النور .. والتى يحاول – ولا زال يحاول حتى الآن – الفنان المسلم أن يجد معادل بصرى موضوعى يمكن أن يعبر عن عمق وجلال هذه المعانى والأفكار
– الله نور السموات والأرض
– مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
– المصباح فى زجاجة
– الزجاجة كأنها كوكب درى
– يوقد من شجرة مباركة
– زيتونة لا شرقية ولا غربية
– يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار
– تور على نور
– يهدى الله لنوره من يشاء
يالله على هذا الكم من الصور والمعانى المركبة والمتداخلة والتى يعجز العقل البشرى عن مجرد تصورها .. فكيف يجد مفردات فنية / تشكيلية للتعبير عن مثل هذه المعانى ، ولنتأمل أيضا كم المفردات التى تعبر عن مفهوم النور فى هذه الآية
– نور / مشكاة / مصباح / زجاجة / كوكب درى / يوقد / يضىء / نار / نور على نور
كل هذه المعانى العميقة كانت بمثابة النبراس الهادى للفنانين فى الثقافة الإسلامية وكانت العمود الفقرى لمشروع الحضارة الإسلامية التى جاءت لتهدى العالم الى النور ، وهو ما إنعكس فى كل أنواع وأساليب الفنون الإسلامية فى محاولة لمضاهاة هذه الأفكار والمعانى العظيمة والتماهى معها إبتداءا من صناعة المشكاوات الزجاجية التى كانت توضع فى المساجد لتضىء للمصليين .. وهو نوعا من المحاكاة المادية المباشرة لمعنى الأية ، مرورا بصناعة الزجاج المعشق الملون الذى يحدد شكل ونوع الضوء الذى يدخل الى المكان .. وأيضا حرفة الأرابسك وزخارفه التى كانت توضع فى النوافذ لتسمح بدخول الضوء ولا تسمح بخروجه ..!!
وأيضا مرورا بفنون مثل الزخارف الهندسية والنباتية التى غلب عليها طابع التجريد فى محاولة للوصول لعمق الفكرة وليس ظاهرها ، وكذا فكرة الخط العربى والكليوجرافيا العربية التى أنتجت كما هائلا من أنواع الخطوط العربية التى تعد بالمئات .. وهو شىء غير مسبوق فى أى لغة
ويجب التأكيد على أن الأعمال الفنية فى الفنون الإسلامية تحتاج الى طريقة خاصة لتعاطى معها .. فأى عمل فنى – بشكل عام – فيه جزء يخاطب ( البصر ) وجزء آخر يخاطب ( البصيرة ) ..جزء يخاطب العقل وجزء يخاطب الروح .. جزء ظاهر ومرئى .. وجزء آخر هو بالضرورة مختفى ومتوارى
لذا يجب ألا ننخدع أبدا.. ولنبحث دائما عن المعنى الكامن خلف السطح اللامع ، وهنا يجب أن ننتبه لتقنيات وأساليب الفنان المسلم فى التعبير عن أفكاره .. خصوصا عندما يستخدم تقنية الظل والنور فى التعبير عن أفكاره .. فالفكر الإسلامى ينظر نظره عميقة ومتأملة للكون المحيط لذلك فإن التعارض الظاهر بين بعض الثنائيات لا يعنى ( التناقض ) ولكنه يعنى ( التكامل ) .. فالضدد يظهر حسنه الضد ..!! مثل ثنائية :-
الظل والنور / الليل والنهار / الأبيض والأسود / الخير والشر / الحياة والموت …. الخ
مفهوم الضوء والنور
لابد أولا من ضبط مفهوم المصطلحات وتحديد المعانى التى يتم التحاور حولها حتى يكون الحوار مثمرا ، وأول هذه المعانى التى يحتاج مفهومها الى توضيح وضبط هى الفرق بين معنى ومفهوم ( الضوء ) ومعنى ومفهوم ( النور ) لأنه كثيرا ما يحدث خلط وإلتباس بينهم حتى بين المهتمين ..!!
– الضوء … مفهوم يشير الى المعنى المادى / الفيزيقى
– النور … مفهوم يشير الى المعنى الروحى / الفلسفى / المثيولوجى
وهكذا تحدث القرآن فى وصف الله – جل جلاله – عندما وصفه ( بالنور ) ولم يصفه ( بالضوء ) كما فى الآية السابقة … إنه النور الذى يضىء كل شىء .. الأرض والسماء .. الأرواح والقلوب .. إنه المعنى والمبنى والمغنى ..!!!
أن المفردات والأشكال المجردة وظفت من قبل الفنان المسلم لتكشف أيضا عن نظام تفكيره وعقيدته وسلوكياته الاجتماعية والروحية ، لأن وراء كل خط ولون وضوء وأشكال هندسية وتوريقات وأشكال النجوم والحروفيات، تكمن أبعاد ثقافية واجتماعية وروحية ، تتناول فلسفة المادة وطاقتها وحركتها الدائمة في الفكر الإسلامي وخاصة فيما تعلق بمسألة تذويبها وإحالتها إلى طاقة وإشعاع ( نور على نور ) وهو ما يشير الى أهمية النور في الفكر والجمال الإسلامي ، كونه وظف من قبل الفنان المسلم لتذويب المادة وتحقيق إشعاعيتها .. فالفنان المسلم انطلق من فكرة (الله نور السماوات والأرض) ليجعل من أعماله الفنية مفعمة بإشراقة النور، ترفض الكآبة والحزن وتجعل من السطح الإسلامي فرحا بهيجا مليئا بالجمال والروعة.
وقد إنعكس هذا المفهوم فى فنون الشرق – وخصوصا فى الفنون الإسلامية – التى إستلهمت معنى النور فى كل فنونها .. سواء كان الإستلهام مباشر أو غير مباشر … وسواء ظهر ذلك فى الأعمال الفنية بشكل مرئى أو ومتوارى .. لأن الفنان الشرقى بشكل عام .. والمسلم بشكل خاص كان يهدف دائما الى التعبير عن البعد الروحى / العقائدى أكثر من إهتمامه بالتعبير عن البعد البصرى ..!!
على عكس الفن والفنانين فى أوربا الذين تفاعلوا مع مفهوم الضوء بشكل مباشر ، سواء فى الحضارات القديمه أو فى الفنون الحديثة والمعاصرة ، إبتداءا من المدرسة التأثيرية وما بعدها .. التى إهتمت بتحليل نظرية الضوء والإستفادة منه تشكيليا مما أصابهم فى النهاية بحالة من الخواء النفسى والروحى جعلهم يبحثون عن مصدرا جديدا للنور يضىء أرواحهم وقلوبهم .. وهو ما إنعكس بشكل واضح فى أعمالهم الفنية ، وفى هذا السياق نستطيع أن نتفهم لماذا تأثر بيكاسو بالثقافة والفنون الإفريقية واليابانية أيضا .. ولماذا ذهب رينوار ودوللاكروا الى الجزائر .. وذهب ديجا الى المغرب .. وهرب جوجان الى جزيرة هاييتى .. كل هذا بحثا عن مصدرا للنور يدفأ الأرواح ويهدى القلوب وينير طريق الخلاص ..!!

(Visited 69 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *