محسن الشمري
فنان وباحث من العراق
هذيان (فاضل الدباغ) وكوابيسه تعني دفعة جديدة من المزاولات البحثية لإنتاج منطق جديد, ليس بالمعنى التسريبي لسرديات حكائية واهية, انما هي خوض فكري لا يفصح الا عن كونه انفتاحاً رؤيوياً تحتكم على طاولته خصومات شكلية ونزوعات داخلية منها ما يتعلق في توسيع الاختلاف في بيت الذات المتمردة, ومنها ما يتعلق بالنزعة التفاوضية لاعادة واسترجاع الثقة
بالرموز البديلة والاشارات الدالة على المشيدات القبلية في بنية الشكل المتخيل.
ففي اغلب اعماله الفنية يقصي (الدباغ) الى حد بعيد اجزا ًء اساسية من هيكل النص كاهماله المتعمد والمقصود للجسد العضوي للانسان واستبداله بالخامة الطينية المفخورة (السندانة) دون الاخلال بالعلاقات المحلية داخل اطار الشكل العام. فالرأس غرس ينمو في حاوية مصنوعة من الطين المفخور تشكل لديه ايقونة التعبد التي تجمع طينة آدم بمحبة اليسوع وتمثال موسى وثقل الرسالة. فالرؤوس المركبة فوق الجسد المصنوع (السندانة) في اعماله الايهامية تبدو عند اسقاط الشكل الكلي في قواعد المنظور وكأنها ( بورتريهات ) تفصح عن علاقة الرأس الماموثي المثقل بجزيئات متراكمة بالجسد الصناعي البديل المزخرف بوحدات نباتية اغلبها من نباتات الصبير. لعبة تنم عن علاقات استفزازية اشارية لدالة مفادها في طروحات العولمة ان الانسان في الحاضر مادة يمكن الاستغناء عنها او تدويرها والتخلص منها وقتما فاضت الحاجة عنها او
ضعفت استجابتها للربحية والسلعية في أسواق العرض والطلب.
تتشكل رؤى (الدباغ) من بنية نسقية حوارية محايثة للحس المشترك بين اصل الصورة (الواقع المفروض) وبين ضرورات الواقع الشكلي المتخيل (الصورة الداخلية) لإزالة الفوارق الاختلافية الناشزة على السطح الظاهر.
تطلعنا اعمال الدباغ (بتمثلات الرسم) عن إحساسه الشفيف بالإفصاح عن الكتمان المؤلم للاسرار والخبايا وعن روحه المعبرة عن تنامي الاشكال في احشائها وكشف ما يتعلق بالهواجس المقلقة الدفينة في صندوق مخيلته. لما كان الانسان لدى الدباغ هو الوسيلة وهو الغاية حرص ان لا يكثر تواجده في الاماكن العامة او في الممرات المزدحمة ولا حتى في الاستيودوهات التصويرية, وقرر ان يستفرد به احاديا في صحراء الذات الاثيرية الباثة للرؤى التخيلية من داخل الفنان الى الخارج المكشوف ( المرئي ) وما لوحته المعنونة (الصبير الاحمر) الا تطبيقا واعياً لشكل ومستوى الزحف التصحري على موارد الطبيعة الرطبة بالمعنى المقارن لاختيار الصبير الشوكي كمعادل لصبر الانسان العراقي في الداخل والخارج ومقاومته
فاضل الدباغ:
لظروف القحط والتصحر والغربة الداخلية التي تؤشر هجرة الروح ولو كان الفرد داخل اسوار الوطن. ولوحته (ملامح رجل مهاجر) اكدت هي الاخرى بتعبيرها محاولة محو ملامح الانسان المهاجر من قائمة الحريات الشخصية وحقوق الانسان.
من هذه التجربة الفخمة تعلم (الدباغ) ان لا يرسم كل ما تكون عليه الاشياء بالواقع, فالكثير منها خلقت ليست للرسم انما قد تكون اجمل واقوى تعبيرية حينما ينوب الرمز عن الايقونة, وتكتفي بالاشارة والايماءة بدل الظهور المباشر.
في عالمه الخاص الحق الدباغ عناصره بالرسم ولم يلحق الرسم بعناصره ليوضح لنا قوة الرفض والتمرد واللاشراكة في تحديد معنى الشيئيات, فالهذيان والعلاقات الوهمية وتغريب الاشكال ابلغ تعبيراً من الجهوزيات الشكلية المقروءة والمستهلكة, على ان تخضع مراحل تنامي مغترباته بقوانين التوافق والائتلاف تحت جنح النسق الواحد وضمن السياقات التعبيرية داخل
المنسجمة مع المحيط الدائر.
ما يحدث هنا ان الدباغ بألعوبته الاستعراضية يخاتلنا بكتمانه واختبائه خلف اسرار الصورة ليمنحنا فرصة المساهمة في حلحلة الغازه وطلاسمه واستبطانات مخيلته الولودة.
الدباغ يسقط النمطية متى توافرت شروط الابداع وبنفس الوقت لا يمانع من اظهارها التوضيحي عند الحاجة لخدمتها التنافذية مع بقية الانساق التعبيرية من المختصرات والمختزلات العاملة في لوحاته المحتفية بالمزيد من الالوان الباردة ذات الانطباع المأساوي الحامل للتأويلات البصرية الشاسعة, كما هو الحال في لوحته المعروفة (الطائر المهاجر) المصنوعة من النسيج العصبي للجسد المهمل بالوانه الكاشفة للتوافقات التركيبية بين محتوى الرأس الماموثي وممتلئات الجسد الصناعي. اما خطوطه العريضة فقد اكدت الميزة التلاحمية بين جزيئيات العناصر المركبة وحرص الفنان على ان تكون مهمتها بمثابة فاصل وعازل لتوضيح الحدود الطبيعية والفنية لاشكاله المقترحة بقدر ماهي ترابطية مع المشتركات البنائية
والعناصر التنسيقية الاخرى المشيدة للعمل الفني.
فاضل الدباغ فنان اختص بمقارعة الخيال ومشاغلة الذاكرة وفغر روح الاستسقاء من الينابيع الصافية لريِّ مفاهيمه وبلل الرمق الذي جففت عروقه حرارة الهجرة في المنفى والامل المنشود بالعودة . عبر عن معاناته في الغربة بما أوتي من موهبة وقدرة مهارية في الرصد والترقب
والمعاينة التي استطاع من خلالها تحليل الواقع وتحقيق الجدوى.