نعيم عبد مهلهل
يزور ملك العراق الصغير (فيصل الثاني) قرى الأهوار في الجبايش بين حين وآخر، ولكنليس بقدميه أو بمشحوفه الملكي الذي ربما يشبه المشحوف الملكي لخان المغول في الهندقبلاي خان في نزهاته الأسطورية في النهر الأصفر، حيث لم يزر الملك المغدور (فيصل) هذهالمناطق، ولكنه حتماً يعرفها جيداً من خلال أسئلته لمرافقيه ولوزيره (نوري باشا السعيد) الذي يعرف وبعمق جميع طبقات المجتمع العراقي.
لكنه يزورها دوماً من خلال صورته المرسومة على الطوابع في البريد الإداري الذي يرسلإلى مدارس الأهوار أيام الحكم الملكي.
وحين قتل الملك في مذبحة قصر الزهور في الانقلاب الجمهوري أتى الزعيم عبد الكريم،وكانت صوره في الطوابع أيضاً، وجاءت أيضاً في بعض معاملات وأوراق البريد التربوي،ويبدو أن الملك والزعيم ليس لهما مكان في ذاكرة المعدان ما دامت الدولة بعيدة عنهما، ولاتبحث عن أبنائهم لسوقهم إلى خدمة العلم، وعندما كنت أسأل الرجال في القرية عنخمسة رجال بالتسلسل فيصل، عبد الكريم، عبد السلام، عبد الرحمن، البكر.
فإن الملك والرؤساء الأربع يتساوون في مقدار المعلومة، لكن الملك قد يتفوق قليلاً علىالجميع؛ لأن في واحد من أشهر حزن الحسين (ع). جاء قارئ المجلس الحسيني وذكر لهممرة بعد أن أطاح الحكم الجمهوري بالحكم الملكي بأن الملك القتيل من أصل علوي.
أبقت هذه المعلومة مشاعر راحة في قلوبهم، وعلى الرغم من هذا لا الملك ولا غيره يهمحياتهم، وكانوا يسمون كل شيء رسمي، المدرسة، وزورق التطعيم الصحي، ومساحيدائرة الزراعة، وحتى الرحالة والمنقبين وعلماء البيئة، وكل هؤلاء يتوافدون في أوقاتمتباعدة قد تطول سنوات عدا معلمي المدرسة يسمون كل هؤلاء (حكومة)…!
ذات يوم أتى رجال لم يسبق لهم أن يروا أشكالهم، ولم يعرفوا طبيعة عملهم وأخبروهم أنهممن فلاحي الجمهورية الاشتراكية الجديدة.
لم يفهموا القصد، وحتى شروحات القادمين لم يصلوا معها إلى شيء يفهمون منهم مايريدون.
جاء أهل القرية إلينا في إدارة المدرسة، وقالوا: تعالوا تفاهموا مع الجماعة بدلنا،يتحدثون عن زراعة الطماطم والبطاطا وحاجات أخرى نحن لا نعرف زراعتها ونشتريها منالسوق.
فهمنا من القادمين أنهم من الجمعية الفلاحية في الجبايش، ويريدون تأسيس جمعيةتعاونية في القرية على أساس أن ساكني المكان من الفلاحين.
قال لهم شغاتي: نحن لسنا فلاحين، نحن مربّو (جِمس)، وإذا أردتم للجواميس جمعيةفهي لا ترغب بذلك، حياتها منظمة منذ قديم الزمان.
وإذا أردتم أن تشكونا للجمهورية، سننتخي بالملك ونقول له: تعال أيها الملك.
اغتاظ الرجال وعادوا إلى الجبايش، وأحدهم قدم شكوى إلى المنظمة الحزبية في المدينةبأن واحداً من المعدان، لا يرغب بالبكر ويريد الملك.
أرسلوا لنا كتاباً تحريرياً يستدعون فيه شغاتي للحضور إلى مقر الفرقة الحزبية، وأظنأن هذا أول استدعاء لرجل من الأهوار حول قضية تهمّ الجمهورية والملكية.
الرجل لم يرتعب ولم يخف، وقال: سأقول لهم أنا لم أرَ لا الملك ولا البكر، ولأن الملك ربما يعرفأكثر من البكر أن الجواميس لا يمكن زراعتها.
المصادفة الجميلة أن مسؤول الفرقة كان معلماً في قريتنا، سمع إجابة شغاتي يوم حضرإليهم.
ضحك وهمس إليه: رحمة لوالديك شغاتي لا تكرر هذه العبارة (تعال أيها الملك) ثانية، قل: تعال أيها البكر.
قال شغاتي: هل يجيء حين أقول له تعال.
قال المسؤول: نحن نأتي بدله؟
ضحك شغاتي، وقال: لا. لن أقول لا الملك ولا البكر، سأقول: احضر يا علي……………..