رواية جميلة عن التعاسة
شاكر الانباري
من الغريب القول إن رواية “التعساء” للكاتب البلجيكي “ديميتري فيرهولست” رواية ممتعة وجميلة، فليس هناك أي جمال في كلمة التعاسة. لكن الفن العظيم، والموهبة الأدبية، والذكاء، يمكنها تحويل التعاسة كشعور بشري، إلى جمال أخاذ. قصص الناس الغارقة في البؤس، والتعاسة، والضياع الروحي، سرعان ما تتحول على يد صانع ماهر إلى دروس بليغة تجتاز محليتها، حاملة رؤاها الفلسفية، وحكمتها الحياتية، ومواقفها الشاعرية رغم حدتها وبشاعتها إلى القارئ أينما يعيش. وتلك مفارقة كل فن رفيع.
لا تروي عن حياة الطبقة الوسطى الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية، أو الطبقة المرفّهة التي عادة ما يراها المشاهد في المسلسلات التلفزيونية، والأفلام التجارية، وقد أصبحت تلك الحياة مثار حسد لأبناء الأمم الفقيرة، الواقعة على هامش الحياة الحديثة، بل تتصادى في متونها العميقة مع رواية “البؤساء” للفرنسي “فيكتور هيغو”، لتقديم المهمشين في القاع البشري. ومؤلف رواية التعساء “ديميتري فيرهولست” كاتب بلجيكي شاب، نسبيا، فهو من مواليد عام 1972 وينحدر من عائلة فيلمنكية تتكلم اللغة الهولندية. وتشتهر تلك المنطقة ببيئتها الفلاحية المحافظة، ومصابة بلعنة الهوية، فهي ضائعة بين الألمان، والهولنديين، والفرنسيين. لا تتكلم الفرنسية مثل قسم “الوالاو” المجاور لفرنسا، ولا تنطق الهولندية باللهجة الهولندية المتعارف عليها، واللغة الألمانية مجاورة لها بأقرب ما يكون.
يكتب ديميتري فيرهولست عن عائلته بضمير المتكلم، كمن يتذكر تلك الأحداث بعد زمن طويل، لكنه يتقمص دور الفرد الأصغر من العائلة ويحمل الاسم ذاته في الرواية. وكأنه يستعيد طفولته التي قضاها في بلدة صغيرة منسية في الريف الفلامنكي اسمها “آرسينديجيم”، تشتهر بحاناتها، وكنائسها، وفقرائها الذين يقضون جل وقتهم في عالم الخمر المكتظ بالأحلام والغناء البذيء. عائلة فيرهولست مشهورة في المنطقة باحتساء البيرة، بإفراط، والغناء في الحانات، والبحث عن النساء. يعيشون جماعيا في بيت واحد متهالك هو بيت الجدة “ماريا”، ويعتمدون في معيشتهم على إعانات الدولة، وكأن الكاتب يريد اخبار القارئ أنه خرج من تلك البيئة الوضيعة كما يخرج محكوم بالإعدام فجأة إلى الحرية، ليصبح كاتبا مهتما ببيئة التعاسة التي نشأ فيها. وحين يعمد الكاتب إلى رسم صورة بانورامية عن البلدة، والريف الفلامنكي عموما، ينتقل في تضاعيف سرده الى الضمير الجمعي “نحن” أغلب الأحيان، بنقلات ملحمية عن المجتمع البلجيكي قبل أن تصبح العاصمة “بروكسل” قلب الاتحاد الأوربي.
وتأتي تلك السيرة الجماعية تكثيفا واسع الزاوية لرؤية مجموعة معينة من البشر، كأن تكون مجموعة مهاجرة توحّدها روابط خاصة، أو صورة تراها تلك المجموعة لنفسها مكونة من أوهام، وتقولات، وإشاعات، وحوارات سريّة، ومشاعر مضخمة لقناعات مشتركة لتلك المجموعة. وهذا ما يفضله الكاتب في سرد قصة العائلة “فيرهورست” البلجيكية المنتمية إلى القسم الفلامنكي من بلجيكيا.
لقد تم رصد تاريخ العائلة منذ السبعينيات وحتى الألفين تقريبا. الجيل الأكبر تمثل بالجدة “ماريا” وتنتهي رحلتها بدار للمسنين بعد أن أصيبت بالزهايمر. وتعتبر انتباهة سردية ذات رمزية عالية إلى أنها فقدت الارتباط بالواقع وقد جرت فيه تغيرات هائلة، لا على صعيد بلجيكا فقط، بل العالم كله. ثم أبناؤها الأربعة، وأحدهما هو والد الراوي، وكانوا آخر جيل من تعساء الريف المسحوقين بالإدمان، والقيم المحلية التي قفز عليه الزمن بخطوات شاسعة.
حياة الفقراء الذين يمكن تسميتهم بالطبقة العاملة الهامشية تنحصر بين الحانات، مثل حانة “واحة الكذابين”، “بلو بايو” و”ستيشن”، والمواخير، والألعاب المحلية، والتطلعات الضيقة. حياة الريف في بلدة تعتمد على الحانات والكنائس والتمزقات الأسرية وبيوت العجزة، وهي تحصّن نفسها عما يجري في العالم بالعزلة البليدة. يضعنا ديميتري فيرهولست في قسم الفلامو من بلجيكيا، وهو يحاذي ألمانيا وهولندا، وفيخمّن القارئ أنه في “هالست” أو “خنك” أو “لوفان”، وربما في بلدة من بلدات “أنتويرب”، لكن الكاتب استطاع تقديم شخصيات طريفة لذلك البؤس، كشخصية الأعمام المدمنين، والجدة الخرفة، وصاحبة الحانة ذات التوأم القزم وهي تمارس الدعارة في أوقات فراغها. ولا يمكن إغفال شخصية العمة “روزي” وابنتها “سيلفي” العائدتين إلى البلدة من بروكسل بعد زيجة فاشلة. ثم نلتقي أيضا، وإن بشكل عابر، بعائلة إيرانية مهاجرة تعيش بجوار الأسرة، أسرة فيرهولست، “ساواش” اسم المهاجر الايراني وزوجته “مهتي”، وهما يتكلمان الهولندية الرسمية كونهم بعيدين عن اللهجة المحلية. لكن الروائي لم يتوغل في حياة الأسرة اليومية، لأن الهجرة في ذلك الوقت لم تكن ظاهرة فاقعة في المجتمع البلجيكي.
جاء التغير الهائل في المجتمع البلجيكي في بدايات القرن الحالي، وصار للمهاجرين واللاجئين وجود محسوس في الحياة اليومية، عقب نفاذهم إلى الأرياف والمدن بطعامهم وأغانيهم وملامحهم، مما رسم ملامح جديدة للمدن الأوربية أجمع. والمعروف أن قسما من الكتاب العرب القادمين من لبنان، والعراق، وتونس، والمغرب، وسورية، تناولوا حياة المهاجرين في السنوات الأخيرة في بلدان مثل باريس وكوبنهاغن وبرلين وستوكهولم ولندن ومدريد وروما، وغيرها من العواصم، تأسيسا على رواية الكاتب السوداني الطيب صالح، موسم الهجرة الى الشمال. وهي من أوائل الروايات العربية في رصدها لحياة المغتربين في أوربا، وعلاقتهم القلقة ببلدانهم، وتحولاتهم الداخلية بعد لحظة الاصطدام مع الحضارة الغربية.
واليوم، مع وجود هذا الكم من الكتاب العرب المغتربين، يفترض أن يرى القارئ العربي روايات تغوص في تلك التجربة الجديدة نسبيا. تجربة الجاليات العربية وهي تندمج في المجتمعات الغربية وتقدم نماذج روائية عن تلك التجربة الفريدة، والجديدة في الوقت ذاته، على حقل اشتغال الرواية العربية. ينبغي الكتابة عن تقلبات عالم جديد، متلاطم الأحداث، مندمج الثقافات، ذاكرته تمتد على كامل الكوكب، عكس ما استفاضت به رواية “التعساء” وهي تحكي عن “طقوس دفن” لعالم قديم.