الدراما العراقية / حين يعكس الفن وجهاً آخر للواقع

 

فاروق الرماحي
الدراما العراقية، تلك التي شغلت جمهور الستينيات حتى نهاية الثمانينيات، كانت عنوانًا للإبداع والتأثير محليًا وإقليميًا، قبل أن تنحدر في التسعينيات، لتجد نفسها اليوم في مأزق حقيقي !

وبرغم وجود نخبة من الممثلين والمخرجين والفنيين المبدعين، والكتاب المتميزين، إلا أن لغة الحوار بيقيت متكلفة ومفتعلة ولغة خشبية غير معبرة ، إلى جانب ضعف البناء الدرامي، جعلت الأعمال التلفزيونية العراقية تبدو وكأنها تحبو، غير قادرة على الوصول إلى مرحلة النضج الفني .

ما يتيح وقتًا كافيًا لتحسين النصوص، وتصحيح الأخطاء الإنتاجية، وإبراز الطاقات الحقيقية بدلًا من اللهاث خلف عمل متسرع يفتقر إلى الإبداع .
المنتج المنفذ في العراق بات أشبه بحاكم مطلق الصلاحية، يقدم أدنى الأجور للممثلين والفنيين، في الوقت الذي تمتلئ جيوبه بالأموال !
في حين أن الفنان العراقي، الذي أضاء شاشات ومسارح العرب في زمن ما، أصبح اليوم مجرد رقم في قائمة منتج لا يرى فيه سوى أداة لتحقيق الربح .
لماذا لا تكون هناك رقابة فعلية على المنتجين المنفذين، تضمن حقوق الفنانين وتضع حدًا لاستغلالهم!؟

أصبحت الشاشات العراقية تمتلئ بوجوه شابة ليس لها أي خبرة أو موهبة، لا لشيء سوى أنها فتاة جميلة أو شاب وسيم لا يملك من الإبداع شيئًا !
في ظل غياب المعايير المهنية، أصبح الجمال هو التأشيرة الوحيدة لدخول عالم التمثيل .
أين المعاهد الفنية؟
أين الورش التدريبية؟
لماذا يُقصى الكبار عن المشهد، وهم من أفنوا أجمل سنوات عمرهم في خدمة فن نبيل ورصين؟
أليس من الإنصاف أن يُنصفوا في زمنٍ صار فيه الضجيج بديلاً عن القيمة؟

كبار الفنانين العراقيين، صنّاع أمجاد المسرح والشاشة، يُهمّشون اليوم، ويُعامل عطاؤهم كأنّه منّة لا استحقاق.
تُمنح لهم إعانات سنوية من مالهم هم، بينما يجلسون على هامش الحياة الثقافية بحجج واهية.
أليس الأجدر أن تُستثمر خبراتهم وتُخلّد سيرهم بدل أن يُختزلوا في قوائم المساعدات
وفي ظل كل هذا، متى يدرك المسؤولون السياسيون أهمية الفن والفنانين، وهم القوى الناعمة لأي دولة؟
مصر، على سبيل المثال، دخلت إلى بيوت العراقيين والخليجيين والعرب من خلال أعمالها الدرامية، حتى حفظنا أسماء مدنها وتعلمنا لهجتها، وأصبحت تفاصيل حياتهم مألوفة لدينا !
أما الولايات المتحدة، فقد غزت العالم بأفلامها العظيمة، لا بجيوشها فقط، بل بسينماها التي صنعت صورة أمريكا في أذهان الجميع .
متى تدرك سلطتنا التنفيذية مدى قوة هذه القوة الناعمة، وتوظفها في أعمال تنتمي إلى العراق والعراقيين؟
كيف يمكننا أن نقبل بأن يظل العالم العربي والمحيط الإقليمي لا يعرف عن العراق سوى الفساد والميليشيات المتنفذة والدولة العميقة داخل الدولة؟
في الوقت الذي يسعى الإعلام العربي إلى تقديم أزهى صورة عن بلده، حتى لو كان مكب نفايات !
في حين يظل العراق غائبًا او مغيباً عن مشهد يملك فيه من الجمال والحضارة والإنسانية ما يروي آلاف القصص الملهمة .

نقابة الفنانين، التي يُفترض أن تكون الحصن الحامي، أصبحت غارقة في صراعات جانبية، بينما يُترك الفنان الحقيقي على أبوابها كمن يجلس الكريم على مائدة اللئيم.
فأين دورها الرقابي؟
ولماذا تبدو أحيانًا مجرد صدى لصراعات الأحزاب بدل أن تكون صوتًا للعدالة الفنية

في زمنٍ أصبحت فيه الواسطة بوابة العبور، تصدّر المشهد من يتقنون فن التملق، بينما يُقصى أصحاب الموهبة الحقيقية إلى الظل.
تحوّلت المناصب الثقافية إلى كراسي لا تُفارَق أصحابها إلا بالموت أو الإقصاء القهري ، فيما تستقوي بعض الجهات المحسوبة على الفن بسلطة السياسة لفرض سطوتهاعلى الفن واهله .
فأين الإبداع وسط هذا المشهد الملوث بالمجاملات

وفي ظل غياب المعايير الفنية، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي السلاح المفضل لبعض من يسعون للتقرب من هذا المسؤول أو ذاك !
التغريدات والمنشورات صارت بطاقات عبور، تمنح أصحابها فرصة الظهور والتقرب من دوائر النفوذ !
بل إن الأمر تجاوز ذلك، ليصل إلى كتابة التقارير الكيدية بحق الفنانين، في مشهد يذكرنا بآليات سلطة الخوف في عهد الطاغية المقبور !
فبدلًا من أن تكون المنصات وسيلة لترويج الإبداع وتسليط الضوء على القضايا الحقيقية، تحولت إلى منصات للتشهير والوشاية، حيث يُحاسب الفنان على رأيه أو حتى على نجاحه !
أليس من المعيب أن نرى هذه الأدوات تستغل لتصفية الحسابات؟
ألا يجدر بالنقابة والجهات الثقافية أن تحمي الفنان من هذا الاستهداف الممنهج؟

ليس من المستغرب أن نرى مسؤول نقابي يسافر إلى كل البلدان أكثر من وزير الخارجية نفسه !
في زيارات لا تضيف شيئًا إلى المشهد الفني العراقي !
بينما يستحق الفنانون الحقيقيون أن يكونوا سفراء للثقافة العراقية في الخارج، ونجد بعض الأسماء تتكرر في المهرجانات وفق منطق الواسطة والمحسوبية !
إلى متى تبقى المهرجانات مجرد منصات لتوزيع الدروع والهدايا على من يمتلك العلاقات؟
ألا يستحق العراق أن يكون له مهرجان سينمائي أو مسرحي يُعنى بجوهر الفن لا بهرجة الافتتاح والختام؟

إن نهضة الدراما العراقية تتطلب مشروعًا وطنيًا ينهض بهذا الفن كرافعة ثقافية واجتماعية .
الإنتاج الدرامي ليس مجرد تسلية، بل هو مرآة تعكس وجع العراقيين، أحلامهم، وانتصاراتهم.
علينا أن نرتقي بالحوار بعيدًا عن لغة الشارع السطحية، وأن نعيد للشخصية العراقية هويتها الحقيقية .
لن تنهض الدراما بالمجاملات والنفاق، بل بحاجة إلى مواجهة صادقة مع واقعها .

فهل نشهد قريبًا عملاً يرتقي لآمال المشاهد العراقي، ويعيد للدراما العراقية ألقها المفقود ؟
أم ستبقى الأسئلة معلّقة في فضاء من الصمت ؟

 


مشاركة المقال :