كل عام و لا أحد بخير

محمد الكلابي

ليس من السهل الحديث عن المعنى في زمنٍ أصبح فيه كل شيء جاهزًا للتداول. حتى التهاني، تلك التي كانت قديمًا فعلًا إنسانيًا مشبعًا بالنية والود، أصبحت اليوم منتجًا رقميًا يُرسل بضغطة زر، ويُستهلك كما تُستهلك الصور السريعة: بلا تركيز، بلا أثر، بلا ذاكرة.

في عيد الفطر، يُفترض أن نحتفل بانتهاء رحلة روحية طويلة. الصيام لم يكن مجرد امتناع عن الطعام، بل تمرينًا داخليًا على الصدق، على النية، على مراقبة الذات. لكن المفارقة المؤلمة أن اللحظة التي يُفترض أن تتوّج هذا الصدق – لحظة العيد – تتحول في الغالب إلى موسم للتواصل الآلي.

“كل عام وأنت بخير” تخرج من عشرات الأجهزة، تصلنا من أناس نعرفهم، وآخرين لا نكاد نذكر ملامحهم. الكلمات تتكرّر، والنصوص متطابقة، والنية غائبة. لماذا نُرسل هذه الرسائل؟ هل نفرح حقًا بمن نُرسل لهم؟ هل نتذكّرهم؟ هل نقصد ما نقول؟

أم أننا نُكرّر العبارة فقط لأن الصمت في هذا اليوم يُفسَّر على أنه تجاهل، أو قطيعة، أو حتى قسوة؟

المشكلة ليست في الكلمات ذاتها، بل في خلوّها من الإنسان. في كونها أصبحت واجبًا اجتماعيًا لا شعورًا داخليًا. نحن لا نُهنئ لأننا نريد، بل لأننا لا نجرؤ على ألا نُهنئ. وهكذا، تتآكل النية من أفعالنا، وتتحول التهاني إلى إجراءات شكلية، بلا حرارة.

هذا التحول يعكس أزمة أعمق في علاقتنا باللغة. فالكلمة، حين لا تصدر من شعور صادق، تصبح بلا قيمة. مثل العملة التي استُهلكت حتى بهت لونها، أو كالثوب الذي ارتداه الجميع حتى تمزّق. ولأن التهاني أصبحت تُنسخ وتُلصق، فإنها تفقد كل خصوصية. لا فرق بين أن تُرسل لإنسان قريب وبين أن تُرسل إلى لائحة جماعية من الأسماء، دون تمييز أو نية أو تذكّر.

عيد الفطر يفترض أن يكون لحظة صفاء. لحظة نُعيد فيها تقييم أنفسنا بعد ثلاثين يومًا من محاولة الصدق. فهل يعقل أن ننهي تلك الرحلة بلغة آلية، مكرورة، جوفاء؟

هل يُعقل أن نخرج من شهر مراقبة النية، لندخل مباشرة في موسم تمثيلها؟

المفارقة هنا مؤلمة: في رمضان نحاول أن نكون حقيقيين مع الله، وفي العيد نعود لنكون مزيفين مع الناس.

نتدرّب على الصدق ثم ننساه في أول اختبار اجتماعي.

وربما هذا ما يجب أن نتوقف عنده: أن التهاني ليست فعلًا بسيطًا كما نظن. إنها مرآة صامتة لما تبقّى فينا من حضور إنساني. إما أن نقول لأننا نشعر، أو نصمت لأننا نحترم الكلمة. فالكلمات التي تُقال بلا نية، تُهدر من قيمة العيد أكثر مما تُضيف إليه.

ربما نحتاج إلى شجاعة مختلفة هذا العيد.

أن نُرسل أقل، ونعني أكثر.

أن لا نخاف من الصمت، إن كان أصدق من كلام مكرور.

وأن نعيد للتهنئة روحها، قبل أن تُصبح مجرد عادة تُمارس… ولا تُشعر.

لن أقول “كل عام وأنتم بخير” لأنني قلتها ألف مرة، ولم أقصدها كل مرة.

لكنني أقول:

كل عام، وأنتم أكثر قربًا من الكلمة التي تخرج منكم… لا من غيركم.

 


مشاركة المقال :


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *