في عالم تتصارع فيه الحقيقة مع الأكاذيب، حيث تُستخدم المعلومات كسلاح للتلاعب بالعقول، يعود السؤال الأزلي: كيف نعرف الحقيقة وسط هذا الضجيج؟ رينيه ديكارت، في منهجه الفلسفي، قدّم الشك كأداة لتحرير العقل. الشك عند ديكارت لم يكن رفضًا عشوائيًا، بل طريقًا نحو يقين مبني على أسس صلبة. لكن، في عصر الأخبار الزائفة، هل يمكن لهذا الشك أن يكون دليلنا؟ أم أن الإفراط فيه سيغرقنا في فوضى معرفية؟
في العراق، الذي شهد موجات متلاحقة من الصراعات السياسية والاجتماعية، أصبحت الأخبار الزائفة أداة رئيسية لإثارة الفوضى. أحد الأمثلة الحديثة التي تكشف خطورة هذه الظاهرة هو انتشار شائعات تفيد بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يخطط لإسقاط النظام العراقي. مثل هذه الأخبار، التي لا تستند إلى مصادر موثوقة، انتشرت كالنار في الهشيم، مما خلق حالة من الجدل والخوف لدى البعض. هنا يظهر الشك الديكارتي كضرورة: من أين جاءت هذه المزاعم؟ ما الأدلة التي تدعمها؟ من المستفيد من نشرها؟ طرح هذه الأسئلة هو أول خطوة لتحرير العقل من الوقوع في فخاخ التضليل.
لكن، كما علّمنا ديكارت، الشك ليس هدفًا في ذاته. إنه أداة للوصول إلى الحقيقة. المشكلة التي نواجهها اليوم هي أن الشك المفرط قد يتحول إلى عدمية معرفية، حيث يفقد الفرد ثقته في أي شيء، حتى الحقائق المدعومة بالأدلة. في العراق، أدى انتشار التضليل الإعلامي إلى تآكل الثقة في المؤسسات، سواء كانت سياسية أو إعلامية. المواطن العادي يجد نفسه حائرًا، غير قادر على تمييز الحقيقة من الزيف، مما يؤدي إلى انسحاب عقلي وجماعي خطير.
ومع ذلك، الشك الديكارتي، إذا طُبّق بعقلانية، يمكن أن يُعيد التوازن. في عصر الأخبار الزائفة، هذا الشك يعني التحقق المنهجي من المعلومات، وفحص المصادر، وتحليل الدوافع خلف الروايات المنتشرة. إنه ليس رفضًا مطلقًا لكل شيء، بل بحثًا عن أدلة ملموسة تقود إلى استنتاجات منطقية. مثال ذلك عندما انتشرت مقاطع فيديو عن احتجاجات يُزعم أنها حديثة، لكنها تبين لاحقًا أنها قديمة أو معدلة. الشك هنا كان مفتاحًا لفهم السياق وكشف الحقيقة.
لكن هذا المنهج لا يتحقق دون تعليم يعزز التفكير النقدي، ويُنمّي القدرة على التمييز بين الوقائع والدعاية. ديكارت علّمنا أن الشك يحتاج إلى نظام، إلى خطوات تقودنا إلى يقين لا يقبل الشك. في عالم الأخبار الزائفة، هذا يعني بناء وعي جماعي يوازن بين الشك والإيمان بالحقائق المدعومة.
في النهاية، عصر الأخبار الزائفة يتطلب عقلًا ديكارتيًا يرفض الانقياد الأعمى، لكنه أيضًا لا يسقط في فخ العدمية. الشك هو سلاح العقل ضد التضليل، لكنه يحتاج إلى حكمة في استخدامه. كما قال ديكارت: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، قد يكون شعارنا اليوم: “أنا أشك، إذن أبحث عن الحقيقة”. بهذا، يصبح الشك أداة للتحرر، وليس معولًا لهدم اليقين.