أ.د عبد الستار الجميلي
على الرغم من أنّ قواعد الممارسة السياسية والحكم تختلف من بلد إلى آخر، لكن تبقى هناك قواعد عامة مشتركة لإدارة الدولالحديثة، يُطلق عليها في الغالب” قواعد اللعبة السياسية”، بين اللاعبين الفاعلين في إدارة صراعات اللعبة السياسية بينالإرادات السياسية، للوصول إلى السلطة، ومن ثمّ إدارة السلطة وما يترتب عليها من مصادر للقوة والثروة، وفق رؤية الفائزومصالحه وعلاقاته.. وقد دأب المحللون السياسيون والإستراتيجيون والإقتصاديون والقانونيون، بحسب موضوع التحليل، على فهم وإستيعاب قواعد اللعبة السياسية السارية في إطار دولة او دولة محددة، قبل التصدي لتحليل موضوعٍ ما،حتى يمكن الخروج بجملة من التوقعات والإحتمالات والسيناريوهات، التي تترتب على سير وصراعات ومآلات هذه القواعد.
هذه مقدمة ضرورية لكي نحاول فهم “غير المفهوم“ في العملية السياسية الجارية في العراق، التي لم تعد تنطبق عليها قواعد التحليل السياسي، بسبب غياب قواعد عامة ومحددة لقواعد اللعبة السياسية.. فمنذ ٢٠٠٣ والبلد يعيش حالة من الإنقسام والتشرذم والشللية والصراعات والمحاور العبثيةوالإستبداد والفساد والتبعية، بين كتل بُنيت على قواعد المحاصصة الطائفية والعرقية، ورؤى تجزيئية، لا تملك حس الإنتماء للكل الوطني الجامع، متصورة حدود الوطن بحدود جماعتها المتخيلة، التي أعطاها الإحتلال الأمريكي توصيف ((مكونات)) خارج السياق التاريخي والمجتمعي لجذور النسيج الحضاري والثقافي العربي والإسلامي، الذي بلور وحدة مجتمعية فوق التعدد الطبيعي الذي لا يخلو منه أي مجتمع في العالم. هذه الوحدة المجتمعية كانت سابقة لبناء الدولة العراقية الحديثة التي جاءت من رحم الإتفاقيات والمساومات وتبادل المصالح بين الدول الإستعمارية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، كان الفضاء مفتوحاً للتفاعل الإجتماعي والقيمي الموحدوالعيش المشترك، وبغض النظر عن نوع الدول والإمارات والسلطنات التي تداولت حكم الأمة العربية والعالم الإسلامي.
لكن العالم سرعان ما تغير ومراكز القوة والتمدد كانت قد إنتقلت الى أوربا التي منحها حق الفتح والتوسع الإستعماري، الذي كان سائداً في القانون الدولي التقليدي، منحها مسمَّى الغرب الذي إمتلك في لحظة تاريخية فارقة مفاتيح القوة والهيمنة والنموذج.. وقد كان العراق وما يزال جزءاً من هذا العالم، وإن كان أحد ضحاياه، نسيجاً إجتماعياً موحداً في إطاره العام، فيالنظامين الملكي والجمهوري معا. صحيح انه في إطار هذا النسيج الموحد كانت هناك تعددية فرعية، وصراعات وفوارق سياسية وإجتماعية وإقتصادية وحضرية وريفية وبدوية، كماهو حال التعددية الموحدة في أغلب إن لم يكن جميع دول العالم.
لكنّ مرحلة الإحتلال الأمريكي كانت مُنشئة أو كاشفة لإستقطاب طائفي وعرقي حاد، كانت جذوره تنتمي إلى عصورموغلة مضت، ومشاعر مثقلة بصراعات قومية ودينية إندثرت، وإن كانت تنكأ جراحها أحياناً الصراعات والنزاعات الداخلية والخارجية وإدارة الأزمات والتعددية غير الرشيدة، خصوصا منقبل النظام السابق الذي تبنى نظاماً شمولياً بدكتاتورية فردية فجة، لم تحسب حساباً لمآلات الرؤية الأمنية الأحادية لإدارة الدولة ووضع العراق الداخلي والخارجي، حتى وقعت الواقعة، التي لم تكن مجرد إحتلال عابر، لكنّه هدم مع سبق الإصرار والتخطيط لنسيج الدولة والمجتمع، ومحاولة فرض نموذج غريب، دون أي إعتبار لطبيعة العراق دولة ومجتمعاً، وهوية وخصوصية، تحت عنوان ((ديمقراطي)) لا يمت بصلة للديمقراطية السليمة، شكلاًومضموناً، ومنطلقاً وأهدافاً. حيث فُرضت قواعد سُمّيت ((سياسية)) مجازا، تمّ بموجبها تقسيم العراق تعسفاً إلى جزر طائفية وعرقية، وشحنها بالقوة والخديعة وغواية الإمتيازات والمصالح المادية والمعنوية، وأطلقها بعد ذلك تتصارع بعبثية مريرة على ثلاثية السلطة والثروة والمباريات الصفرية، لُتترجم من ثمّ إلى ثلاثية الإستبداد والفساد والتبعية. ما أدخل العراق إلى غيابة “غير المفهوم“ قواعداً ونظاماً وكتلاً، وشخوصاًتختبئ خلف محبسي المنطقة الخضراء والصراع المرير للحفاظ على ترف الغنيمة.
فيما ناعور الدم يأخذ يوميا خيرة الشباب: إمّا في ساحات التحرير الذين طفح بهم الكيل وهم يرون وطنهم، يُختصر بكتلعائلية وقرابية، حولته إلى مزرعة خاصة ومال عام مباح، فحملوا أرواحهم على أكفهم باحثين عن وطن لم يبخلوا عليه بالدماء الزكية للشهداء والمصابين.. أو تحت ضربات الإرهاب المتوحشالمدعوم محلياً وإقليمياً ودولياً الذي عاث خراباً وإرهاباً في البلاد والعباد.
وحناجر الغالبية المقهورة تغصُّ بمحنة السؤال وثلاثيته الأشدّ مرارة: إلى أين؟ ومتى؟ وكيف؟
فكيف لمحلل سياسي أو غير سياسي، أن يتصدّى لتحليل قواعد محاصصة لا تنتمي للعصر، ورؤى أحادية لا ترى الوطن والعالم ومتغيراته إلاّ من خلال جماعاتها المتخيلة، وكتل أدمنت تقنين إستبدادها ديمقراطياً، ومافيات فساد بأذرع محلية وإقليمية ودولية، وقابلية بيئة سياسية للإستعباد والإحتلال والتدخل والتموضع والإرهاب وإباحة الدماء والمال العام، وتغيير الهوية والثوابت والمحددات والولاءات والتحالفات على مدار مواسم المصالح والإنتخابات والأجندات؟!