محمد الكلابي
في قلب الشرق الأوسط، تشتعل معركة من نوع مختلف، ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي صراع رؤى متناقضة تسعى كل منهما لفرض شكلها الخاص على مستقبل المنطقة. بين المشروع التركي الإخواني، الذي ينادي بتوحيد العالم الإسلامي تحت مظلة دولة خلافة جديدة، والمشروع الإسرائيلي، الذي يعتمد على تفكيك الدول العربية والإسلامية إلى كيانات صغيرة لضمان بقائه، تبدو المنطقة أمام منعطف تاريخي يحمل في طياته الكثير من المخاطر والتحولات.
المشروع التركي الإخواني، الذي يعبر عن طموحات أنقرة في استعادة نفوذها التاريخي، يقوم على رؤية توحيدية تعيد تشكيل خريطة المنطقة الإسلامية. هذه الرؤية لا تخجل من إعلان نواياها؛ تصريحات الجماعات المرتبطة بالمشروع التركي، مثل “صلينا اليوم في الجامع الأموي وغدًا في القدس وبعدها في مكة”، تعكس هذا الطموح الذي يرى في وحدة سوريا الخطوة الأولى نحو تحقيق الخلافة الموعودة. تركيا، التي تعدّ قلب العالم الإسلامي بتداخلها الجغرافي والتاريخي مع آسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط، تدرك أن بقاء سوريا موحدة هو صمام أمان لاستقرارها، فالتقسيم هناك لن يتوقف عند حدود سوريا، بل سيشعل النار في الأراضي التركية نفسها.
في المقابل، يعمل المشروع الإسرائيلي على عكس هذا تمامًا؛ فهو يقوم على مبدأ التفتيت، إذ ترى إسرائيل في وحدة الدول العربية تهديدًا وجوديًا. لهذا السبب، يركز المشروع الإسرائيلي بشكل كبير على سوريا، حيث يسعى إلى تقسيمها بدعوى “حماية الأقليات”. هذا الخطاب يحمل في جوهره خطة لتدمير أي كيان موحد يمكن أن يشكل خطرًا على إسرائيل. الوحدة السورية تمثل بالنسبة لإسرائيل السم القاتل الذي يمكن أن يهدد أمنها على المدى الطويل.
لكن المشهد لا يقتصر على الأطراف الإقليمية، فهناك قوى كبرى تلعب أدوارًا خفية لتحريك القطع على رقعة الشطرنج. روسيا وإيران كانتا اللاعب الأكبر في هذه اللعبة عندما قررتا تسليم سوريا لتركيا والإخوان المسلمين. على السطح، قد يبدو هذا كأنه تنازل غير منطقي، ولكن الحقيقة أن هذه الخطوة كانت خطة استراتيجية معقدة تهدف إلى إعادة توزيع الأدوار بين القوى الدولية. تركيا، كونها واحدة من أهم أعضاء حلف الناتو، تشكل مركز ثقل جيوسياسي يجعلها محط اهتمام الجميع. خروج تركيا من الناتو أو ميلها نحو المحور الروسي-الإيراني سيكون بمثابة كارثة استراتيجية للولايات المتحدة وأوروبا.
أمريكا اليوم تجد نفسها في مأزق تاريخي؛ دعمها للأكراد في سوريا بهدف إقامة دولة كردية اصطدم مباشرة بمصالح تركيا، التي تعتبر هذا التوجه تهديدًا وجوديًا. في الوقت نفسه، لا تستطيع أمريكا التخلي عن إسرائيل، التي ترى في تقسيم سوريا ضمانًا لاستمرار وجودها. هذا المأزق يجعل واشنطن أمام خيارين صعبين: إما التضحية بعلاقتها مع تركيا، وإما تقليص دعمها للمشروع الإسرائيلي في سوريا. لكن أيًا كان الخيار، فإنه سيؤدي إلى تصعيد قد يخرج عن السيطرة.
من جهة أخرى، يظهر ذكاء الخطوة الروسية الإيرانية في نصب فخ محكم للولايات المتحدة. تسليم سوريا لتركيا يعني تحويل الصراع إلى مواجهة بين حليفين رئيسيين لأمريكا: تركيا وإسرائيل. هذه المواجهة، التي بدأت ملامحها تظهر، ستجبر الأطراف على إعادة ترتيب تحالفاتها. تركيا تجد نفسها اليوم أمام اختبار صعب؛ هل تواصل خضوعها للناتو، الذي يدعم مخططات تقسيم سوريا، أم تختار الانفصال عن الغرب والانضمام إلى المحور الروسي-الإيراني الصيني؟
على الجانب العربي، تظهر الدول الخليجية ومعها مصر والأردن – باستثناء قطر وعمان – في موقف الداعم للمشروع الإسرائيلي. هذا الاصطفاف يعكس خشية هذه الدول من التمدد التركي الإخواني، الذي يهدد بزعزعة استقرارها الداخلي. لكن هذا الانحياز يحمل في طياته مخاطر أخرى، أبرزها توسيع نطاق الصراع ليشمل مناطق أوسع داخل التحالف العربي نفسه.
في ظل هذه التعقيدات، تبدو المنطقة وكأنها تقف على برميل بارود، حيث أي تحرك خاطئ قد يؤدي إلى انفجار شامل. سوريا، التي أصبحت مركز هذا الصراع، ليست مجرد دولة تتقاتل عليها الأطراف، بل هي نقطة تحول ستحدد مستقبل النظام الإقليمي والدولي. هل ستبقى سوريا موحدة كما يريد المشروع التركي؟ أم أنها ستُقسَّم إلى دويلات صغيرة كما يخطط لها المشروع الإسرائيلي؟ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، لكنها ستكشف عن ملامح الشرق الأوسط الجديد.
ختامًا، ليس هذا الصراع مجرد مواجهة بين تركيا وإسرائيل، ولا هو مجرد نزاع على سوريا، بل هو معركة بين رؤيتين متناقضتين تمامًا: رؤية توحيدية تريد استعادة مجد الإمبراطورية الإسلامية، ورؤية تفتيتية تسعى إلى إبقاء المنطقة في حالة ضعف دائم. في هذه المعركة، لا مكان للحلول الوسط، فكل طرف يدرك أن خسارة هذه الجولة تعني خسارة مشروعه بالكامل. السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه: هل تمتلك القوى الكبرى السيطرة الكافية لمنع هذا الصراع من الانفجار، أم أن الشرارة الأولى قد اشتعلت بالفعل؟ الشرق الأوسط اليوم ليس أمام مستقبل واحد، بل أمام احتمالات عدة، والنتيجة النهائية قد لا تكون في صالح أي طرف، لأن النار التي تشتعل هنا لن تقف عند حدود المنطقة، بل قد تمتد لتحرق الجميع.