التاريخ يُحَذِّرُنا – محمد الكلابي

التاريخ يُحَذِّرُنا – محمد الكلابي

محمد الكلابي

عندما أسقط المغول بغداد، لم يكن ذلك نتيجة يوم أو ليلة. الطريق بين الصين والعراق كان طويلاً، لكن أطول منه كان الطريق الذي قطعته الأمة نحو الانقسام والتخاذل. كان على المغول أولاً أن يسحقوا الدولة الخوارزمية، التي كانت حائط الصد الأول. تلك الدولة التي وقفت في خلافٍ مع العباسيين، لم تجد من يساندها عندما دقت طبول الحرب. وعندما سقطت، لم يحرك العباسيون ساكناً، منشغلين بتفاصيلهم وصراعاتهم الضيقة. كان سقوط الخوارزميين مقدمة حتمية لسقوط بغداد، وكأن أحدهما كان ينتظر الآخر لينهار معه.

هذا السيناريو لم يكن مجرد فصل في كتاب التاريخ، بل نموذج يعكس ذهنية تتكرر بأشكال مختلفة. ذهنية الانشغال بالخلافات الصغيرة، وغض الطرف عن الأخطار الكبرى. اليوم، نجد أنفسنا أمام خيارات مشابهة. خيار الانشغال بتصفية حساباتنا، أو خيار توحيد الصفوف في مواجهة الخطر الأكبر، المتمثل في الاحتلال الصهيوني الذي يخطو بثبات لتحقيق أهدافه، بينما نحن غارقون في التفاصيل.

إن خيارنا الأول، إذا استمر، لن يؤدي إلا إلى سقوط جديد. ليست التفاصيل الصغيرة هي التي تحمينا، بل هي السمّ الذي يقتلنا من الداخل. الخلافات السياسية والطائفية، والنزاعات على أمور ثانوية، ليست سوى طعنة إضافية في جسد أمة تواجه عدوًا لا يرحم. العدو اليوم لا يحتاج إلى أن يقطع آلاف الكيلومترات كما فعل المغول؛ إنه بيننا، يستغل انقساماتنا، ويستثمر في ضعفنا، بينما نمهد له الطريق.

التاريخ لا يكرر نفسه، لكنه يكشف عن أنماط متكررة في طريقة تفكيرنا. ذهنية التفرق والانشغال بصغائر الأمور هي التي تهزم الأمم، وليس قوة الأعداء. العباسيون والخوارزميون لم يكونوا عاجزين عن المواجهة،لكنهم اختاروا أن يكونوا عاجزين بتجاهلهم للخطر المشترك. واليوم، إذا استمررنا في السير على نفس المنوال، فسنكتب بيدينا نهاية مشابهة، ولكن هذه المرة قد لا يكون هناك من يسجلها.

الخيار الآخر ليس سهلاً، لكنه الطريق الوحيد. أن نرتقي فوق تفاصيلنا، أن نضع الخلافات جانباً، وأن ندرك أن ما يجمعنا أكبر مما يفرقنا. لا يمكن أن تكون الوحدة مجرد شعار، بل يجب أن تكون ممارسة عملية تقوم على الإيمان بأن مواجهة الخطر الأكبر تتطلب التكاتف، لا التناحر.

بغداد لم تسقط لأن المغول كانوا أقوى، بل لأنها كانت ضعيفة من الداخل. واليوم، لا يكمن الخطر في قوة العدو، بل في ضعف إرادتنا. الاختيار بأيدينا: أن نصبح درعاً واحداً أمام الخطر، أو أن نستمر في صناعة الثغرات التي يدخل منها أعداؤنا.

الخيانة الكبرى للأوطان ليست في خيانة العدو، بل في خيانة الوحدة؛ لأن أمة تشتري خلافاتها ستبيع أرضها بأرخص الأثمان

(Visited 167 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *