حسين فوزي
دبلوماسية الفرق الرياضية ابتكرها هنري كيسنجر فجأة، تمهيداً لإستعادة العلاقات الأميركية الصينية العريقة في عهد الولاية الأولى للرئيس نيكسون، التي تبلورت مبكراً في الدور الأميركي في البر الصيني لمواجهة التوسع الياباني قبيل الحرب العالمية الثانية.
واسفرت دبلوماسية كيسنجر الرياضية عن تبادل التمثيل الدبلوماسي مع بكين، وأحتلال الصين لمقعدها في مجلس الأمن بدل من فرموزا وحكومة ورثة شن كاي شيك، فجاءت دورة الخليج العربي 25، بعد تأخر طال امده، لتجسد التلاحم الشعبي بين عرب الخليج واهلهم في البصرة وبقية العراق.
كانت فرحة بصرية، فالبصريون جبلوا اجيالاً متعاقبة منذ مئات السنين على اوثق الوشائج ببقية اهلهم وعشيرهم حتى بحر عمان، بل وحتى ما بعده وصولاً إلى الأصدقاء في شبه القارة الهندية والصين. وهي علاقة دم ومصالح موضوعية وعقيدة، تشمل في الوقت نفسه الجوار الفارسي على تعدد الأنظمة التي حكمت هضبة فارس، بكل ما فيها من وشائج إنسانية ونزاعات دموية، لم تكن القادسية إلا احد ابعادها، وفي الوجدان إسقاط بابل.
والعرس الخليجي العربي لدورة كأس الخليج العربي لم يكن بصرياً مجرداً، فالصحيح أن البصريين قد انتدبهم العراقيون، بعربهم وكردهم وبقية الأطياف، لرعاية إستعادة الوشائج التاريخية التي قطعتها الحروب العبثية للنظام السابق، بحكم ما يمثله عرب الخليج من رئة لتنفس العراقيين بحرياً وأقتصادياً واجتماعياً.
الفرحة لها بعد إنساني، فالأهل لم تعد قطيعة سافرة بينهم، والأمل عودة التفاعل المشترك بكل عطائه التاريخي لجني ثمار الخير من التعاون والتكافل المشترك، فكل امجاد عرب حوض الخليج العربي كانت بتأزرهم، وكل الكوارث نجمت عن فرقتهم.
كثر من الكتاب والمحلللين اطنبوا في أمتداح التظاهرة، التي بلغت ذروتها في تتويج العراق بطلاً لدورة 2023، وهو استحقاق لتثمين جهد كل من ساهم في الأعداد للدورة الرياضية الإنسانية العربية الرائعة، وامتداح لشباب فريقنا البطل الذي “جاب الكاس ..”، وجماهير البصرة وبقية العراقيين الذين حولوا المناسبة إلى تظاهرة كبرى للأخوة العربية في خليجهم.
الفرحة كبيرة في الأصل في لقاء “فروع” العرب مع بعضها بمودة جرحتها السياسات الطائشة حتى ما قبل غزو الكويت، فروع عربية اصيلة تلتقي مع “اصلهم” البصرة، الولاية العريقة منذ أيام كاظمة وحتى فتوحات عتبة أبن غزوان ومحمد القاسم. وهي وشائج كان أمير الكويت الراحل صباح الأحمد الصباح يراها حجر الزاوية في الحفاظ على السلطة العربية في الخيلج العربي وتثبيتها، االذي تتنازعه قوى إقليمية ودولية تفوق حجم الأطراف العربية متفرقة، لكنها تبقى ثابتة في ارضها طالما توحدت، وحرصت على ظهيرها العربي في مصر وسوريا، مع علاقة اخوية طيبة بالمملكة العربية السعودية، كما حدثني في لقاءات شخصية عديدة في أواسط سبعينات القرن الماضي أيام كان وزيراً لخارجية دولة الكويت. وهي عقيدة طالما آمن بها أيضاَ د. محمد بن سلطان القاسمي حاكم الشارقة، الذي طالما حرص على تأكيد انتمائه العراقي، كما حكى لي د. حميد قاسم، الذي التقى الشيخ القاسمي عندما كان استاذاً يدرس في جامعة الشارقة.
إنها فرحة وأمال عريضة، ضمن الكثير مما يموج في صدور البصريين وبقية العراقيين، فالعراقيون من جانبهم عملوا الكثير لتحقيق هذا العبور من القطيعة إلى استرجاع ذات الوشائج الدافئة بين الأشقاء، والأشقاء الخليجيون استجابوا ببعض التردد، لكن دفء االترحيب البصري العربي الصادق، أوقد في وجدان الأشقاء المشاعر التي حسب البعض قدرتهم على طمسها بشعارات وطروحات غريبة عن شخصية البصريين وبقية العراقيين.
الشيء المهم في كل ما جرى في دورة الخليج العربي البصرية هو دفء الأخوة العربية للأهل والطموح في صياغة تعاون يضمن تنمية مستدامة ليس للبصرة والعراق، إنما لكل الخليج العربي، فمن باب أولى أن تكون التنمية المستدامة اسرع وأكثر موثوقية حين تكون مع الأقرب جغرافياً، والأقربون من الجوار أحق بها، مع الحرص على افضل العلاقات مع الجوار.
وهنا جاءت كلمات بليغة في تغريدة بسيطة للسيد عزة الشابندر قال فيها ” نبارك للفائزين ومحبيهم الفوز للعراق بكأس خليجي 25 …لكن هذا لا يغطي على خسارة الفاشلين في السياسة والادارة والنزاهة والتعليم والصحة والزراعة .”
التحدي الكبير هو إدامة فرحة خليجي 25 في معالجات مدروسة غير متسرعة مترابطة لدوامة الأزمات التي “تلفنا” في يقظتنا ومنامنا، في لقمة العيش والصحة والتعليم والأمل في مستقبل افضل لأبنائنا من الدوامة التي نعيشها، حيث الفشل في السياسة الطائفية ومحاصصتها، والإدارة المبنية على المصالح الحزبية والعشائرية والعائلية الضيقة، والنزاهة التي باتت سبة بين الصغار بعد أن تكرش كثر من كبار القوم في التنكر لها، والزراعة التي تُجرف ارضها، فيما الجفاف بفعل سياسات تركيا وإيران تكمل على بقيتها. وليست ازمة الدولار الراهنة سوى تعبير واحد عن الفشل في إدارة العلاقات الوطنية والإقليمية والدولية بما يضمن مصلحة الشعب العراقي وأستقرار امنه وتوفير فرص حقيقية لتنمية مدروسة، وليس اعتماد معايير أخرى توهم بأن زيادة استخراج النفط هو التنمية المستدامة المتسارعة.
إنه تحدٍ كبير تكلم عنه بشجاعته المعهودة الشابندر، وهو الشخص المعهود بجرأة طروحاته، التي تباري ما كان يطرحه المرحوم د. احمد الجلبي من حيث الجرأة والموضوعية، وهو في هذا يلتقي مع قوى تشرين وبقية الأطراف المدنية الديمقراطية التي تطالب بتطبيق عملي لبرنامج حكومة السيد السوداني، التي تعرقلها أطراف ممن تعد نفسها قوى ساهمت بقوة في تنصيب السوداني…فهل من مستجيب بالفعل وليس بالوعود، بالعمل المخطط المدروس وليس الهبات الآنية المعزولة، فيما هرم إدارة الدولة ماضٍ في جمع المزيد من المنافع الشخصية على حساب حياة العراقيين ومستقبل الوطن؟؟؟ علماً أن اية حقوق آنية قد تسكن السخط قليلاً، لكنها على المدى المنظور تعمق الأزمة، ما لم تكن هناك سياسة اقتصادية تنموية وليس العمل وفق سياق العطاءات والترضيات في تعيين بعض العاطلين…
عودة سفن العرب لمينائهم البصرة وصراحة الشابندر
(Visited 19 times, 1 visits today)