أ.د عبد الستار الجميلي
منذ أن ضربت فوضى الربيع العبري سورية العربية في سنة ٢٠١١، والسلاح الطائفي مرفوع في وجه الحكومة السورية، على أساس أنها متحالفة مع النظام الإيراني وأنها سمحت لميليشياته بدخول سورية للقتال إلى جانب الجيش العربي السوري ضد الجماعات الإرهابية. وهذا التبرير ضال ومُضلّل فإنَّالواقع الموضوعي يؤكد إن ما يُسمى بــ ((الثورة السورية)) لم تكن ثورة لا من قريب ولا من بعيد، وإنما هي أحد أدوات نشر الفوضى الإرهابية التي إستغلت الحراك الشعبي العربيالسلمي الذي كان يطالب بتحولات وحقوق سياسية وإجتماعية مشروعة، فدخلت على خطه من أجل تحقيق هدف تمزيق الوطن العربي، أكثر مما هو ممزق، إلى محميات تابعة لهذا الطرف الدولي أو الإقليمي أو ذاك.. وأما موضوع التحالف مع النظام الإيراني، فمكره أخاك لا بطل، فبعد الدفع بسيل من الإرهابيين والمرتزقة من أكثر من مائة دولة بإعتراف الأمم المتحدة للعدوان على سورية العربية، لجأت الحكومة السورية إلى المبدأ السياسي التقليدي، تحالفات الضرورة: عدو عدوي صديقي، فإضطرت مُكرهةً إلى طلب المساعدة من النظام الإيراني وميليشياته بدافع الضرورة وليس بدافع طائفي حاولتالجماعات الإرهابية تسويقه لكي تبرر إرهابها وعبثها بالهوية والجغرافية العربية لصالح مشاريع عدوانية خارجية. وهي نفس الضرورة الموضوعية التي دفعت النظام العراقي السابق إلى إرسال الطائرات العراقية إلى إيران بعد إحتلال الكويت مع أن العراق وإيران خاضا حرباً ضروساً لثماني سنوات متواصلة. الأمر الذي يؤكد بأن هذه الجماعات الإرهابية وليس غيرها هيالتي كانت المسؤولة عن إستدعاء إيران وتركيا معها إلى سورية، وهي تستدعيهما اليوم بأكثر قوة وإنتشاراً، مثلما إستدعى داعش الإرهابي إيران سابقا لدخولها كــ((محرر)) للمحافظات العراقية التي إحتلها ودفع أهلها إلى طلب الخلاص من إرهاب داعش حتى ولو من الشيطان، وكان النظام الإيراني جاهزاً لإنتهاز هذه الفرصة الجاهزة؟!. فالدولة لها منطقها الخاص وضروراتها الموضوعية التي تنبع من طبيعة مصادر التهديد والمخاطر التي تواجهها وليس من أوهام متخيلة، ما يدفعها إلى إتخاذ مواقف وتحالفات قد تبدو للبعض غير منطقية كتحالف الضرورة المرحلي بين سوريا والنظام الإيراني، وفي مواجهة هذه المفارقة التي تبدو غريبة عند البعض في ظلّ العلاقات التاريخية المتصدعة بين العرب والفرس، أكّد الرئيس الأسد أكثر من مرة بأن النظام السياسي في سورية يختلف أيديولوجيا عن النظام الإيراني، فالنظام السياسي في سورية قومي عربي في منطلقاته وأهدافه، وفي تأكيده الحاسم بأنّ سورية وشعبها جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، لذلك كان الحرص على الإحتفاظ بعلم الوحدة العربية علم وحدة سورية ومصر(ج ع م)، بينما حمل الإرهابيون علم الإنتداب الإستعماري الفرنسي، وكذلك الحفاظ على مسمى الجمهورية العربية السورية والجيش العربي السوري، بينما كان أول قرار لللإرهابيين حذف مسمّى العربي من إسم سورية وجيشها بما ينسجم مع مشروع إلغاء العرب والعروبة من الجغرافية والتاريخ وذلك من منطلقات شعوبية إرهابية جليّة لا تحتاج إلى إفصاح.. لذلك فإن محاولة إحياء هذه الجماعات الإرهابية، التي تمّ إستجلابها من جهات الأرض كافة،عبر الهجوم على حلب يندرج ضمن المشروع القديم/ الجديد، مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي نظّر لنسخته الجديدة شمعون بيريز والذي يتلخص: بتجزئة الوطن العربي من جديد،ولكن هذه المرة إلى محميات للطوائف والأعراق والملل والنحل بقيادة الكيان الصهيوني وبفضاء أمريكي غربي، على أن تكون هذه المحميات أصغر جغرافيا من الكيان الصهيوني.. وقد مهدّتالأرضية لتحريك هذا المشروع التقسيمي من جديد، الحسابات الخاطئة والمريبة في غزة ولبنان التي منحت المجرم نتنياهو فرصة ثمينة لإحتلال غزة ولبنان وتصفية القضية الفلسطينية وإعادتها إلى المربع الأول مجرد قضية لاجئين، وبالتالي البدء بتنفيذ ما سماه تغيير الشرق الأوسط وذلك بتحريك الإرهابيين في ادلب ضمن خطة عسكرية وإعلامية واسعة مدعومة من مخابرات دولية وإقليمية معروفة، بهدف فرض موطئ قدم في مساحة واسعة من الأراضي العربية السورية، ومن ثم التوغل إلى الساحات العربية الأخرى من النيل إلى الفرات وفق المشروع الصهيوني كما رسمه هرتزل منذ المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897. وفي موازاة ذلك العدوان تم رفع السلاح الطائفي من جديدفي مواجهة الحكومة السورية كعنوان وتبرير لهذا المشروع الإرهابي، حيث إنبرت الخلايا الطائفية في شن حرب نفسية منظمة ومنسقة على بعض الفضائيات الناطقة لفظا باللغة العربية وعلى وسائل التواصل الإجتماعي بهدف تضليل الرأي العام العربي بنشر الأكاذيب ومنَتجَة الفيديوهات المزيفة وتوظيف الذكاء الإصطناعي والحديث عن إنقلاب عسكري وهمي وبأسماء وهمية، للإيحاء بأن النظام السياسي في سورية قد سقط، بطريقة تُذكرنا بالحرب الإعلامية التي سبقت إحتلال العراق وإحتلال ليبيا حيث كان مونتاج الصور والفيديوهاتالمزيفة يتمّ في إستوديوهات فضائيات معروفة في تبنيها للمشروع الإرهابي الطائفي وبث الفرقة والفتن في الوطن العربي وفق برامج موجهة تديرها المخابرات الدولية والإقليمية التي لم تعد خافية على أحد.. لكن المشروع العدواني الجديد على سوريةسرعان ما أُصيب بالفشل المبكر من خلال معطين أساسيين: المُعطى الأول، إحتواء الجيش العربي السوري للهجوم الإرهابي والبدء بتدمير موجات الإرهابيين وتدمير مقراتهم وإستعادة الكثير من المناطق وفق خطة الهجوم المضاد المخطط له هذه المرّة ألاّ يتوقف إلاّ عند الحدود التركية، وألاّ يترك ادلب أو غيرهاكمسمار جحا وقاعدة إرهابية للتحرك عند الطلب من قبل الأطراف الدولية والإقليمية. والمعطي الثاني الذي أصاب المشروع بضربة قاضية هو الموقف العربي الموحد الداعم لعروبة سورية شعبا وحكومة وجيشا من جميع الدول العربية بإستثناء دويلة واحدة معروفة بدعمها للجماعات الإرهابية المتأسلمة وتبرعها الدائم بأن تكون طرفاً في أيّ مشروع يستهدف الوطن العربي إنطلاقاً من عقدتها القزمية.. وأزاء وقائع وأهداف هذا المخطط العدواني الواسع فإن الدفاع عن عروبة سورية ووحدتها الوطنية أرضا وشعبا وسيادة ومصيرا في مواجهة هذه الجماعات الإرهابية المدعومة دوليا وإقليميا، لم تعد مسؤولية الشعب والجيش والحكومة في سورية لوحدهم، وإنما هي مسؤولية عربية مشتركة آن الأوان لأن ترتفع إلى مستوى التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية التي تستهدف الأمة العربية في وجودها ومستقبلها، وأن لا تسمح من جديد بوجود فراغ طال أمده إستغلته القوى المعادية لملئه بمشاريعها العدوانية، وأن نلغي من الساحة العربية أوهام الإستقطاب الطائفي المقيت، الذي لا يمتُّ للإسلام والعروبة بأيّة صلة، الذي إستغلته قوى إقليمية محددة لبعث الإمبراطوريات والسلطنات البائدة من مقابر التاريخ، والذي أصبح رافعة جاهزة لتبرير العدوان على سورية والدول العربية الأخرى والإستقواء بالخارج وإستجلاب الإحتلال الأجنبي.