الجزء الثالث
د. احمد مشتت
تشبثت بملف الجواز بعد ان منحني ضابط الامن فرصة اخرى للحياة. وبدات احث السير في الممر الطويل ، هكذا بدا لي، ممراً من آلاف الاميال رغم اني كنت ابصر الاسم في القطعة الحديدية على جدار دائرة الاصدار والتي سقطت منها بعض الحروف واختل توازنها، لم تكن بهيبة قسم الامن ولوحته البرونزية المهيبة.
قلت في نفسي:
خلصت اصعب مرحلة. ومازال الاوكسجين الذي دغدغ رئتي بعد مغادرة شباك الامن يحاول اقناعي انني تجاوزت مرحلة الاختناق خوفاً.
( احمد سلمان )
فجأةً وأنا في منتصف ممر النجاة الاخير سمعت صودرا هادرا ينطق بإسمي.
صوت فيه اصرار محسوس وغطى على ضوضاء الصباح من حولي. سكتت العاصفير التي احتلت قمم الاشجار منذ بزوغ الشمس ومحركات السيارات في الشارع المجاور وضجيج الحالمين بالنفاذ من خرم الحياة المصادرة ودعوات بائعي الشاي على باب دائرة الجوازات للجمهور المحاصر بتذوق شاي الصبر على المحن.
بدا وكأنه الصوت الأوحد في الكون.
الصوت الذي له الحق باجباري على التوقف بظهر مكشوف لهجوم غادر.
انفض الاوكسجين من حولي فجأة وضاق الفضاء ، تحول الى سجن له اعمدة وبوابات سميكة اصبحت اسمع صريرها وهي تغلق.
لم يخطر في بالي سوى شئ واحد:
اكتشف ضابط الامن ماكان يود ان يجده ولم يفلح فيه في اوراقي المرتبة حسب لوائح النظام الصارم.
قلت لاحمد واصبحنا الان شخصين ، الاول داخل السجن المتخيل مستسلماً لنداء الضيم الابدي والاخر يحاول جاهدا ان يتمسك برزانة التفكير وايجاد الحلول السريعة للمأزق المقبل:
ربما تخيلت ان احدهم نطق بإسمي
نعم تخيلت ليس الا. ماعلي سوى ان اهمل خيالي الجامح.
قدمي اليمنى تمكنت من خطوة اخرى ثقيلة اصدرت زلزالاً في جسدي. وقبل ان تلحق بها اليسرى
جاء الصوت مجددا
ا
ح
م
د
س
ل
م
ا
ن
وتقطعت الحروف وهي تصلني وبدت كأنها اوامر اعتقال رسمي.
حين التفت بعد ان قررت الاستسلام الكامل لأوامر التوقف ، اكتشفت ان صاحب الصوت لم يكن ممثل السلطة ضابط الامن ذو الوجه الكئيب الذي مازال جاثماً على مكتبه غارقا في ملفات الضحايا.
( احمد هاي وينك صار سنين ماشايفك )
كان احد اصدقائي من اعدادية الجمهورية في حي المعلمين التي انتقلت اليها من اعدادية قتيبة في الصف السادس الاعدادي عام ١٩٧٩. تذكرته ليس لان لي ذاكرة متقدة وعظيمة ولكن لان شدة اللحظة وتعقيدها منحاني توقداً ذهنياً مفاجئاً حتى بالنسبة لي للخروج من هذا الامتحان الصعب. ذاكرتي توهجت واستدلت على ملامح وجه هذا الكائن رغم غبار الازمنة الذي غطى مجساتها.
( اهلا عصام )
اختفى ملف الجواز خلف ظهري وانا اعانقه
( شد تسوي هنا )
سؤال توقعته منذ قررت الالتفات وكانت خطتي بالتمويه وعدم الرد هي الخيار الوحيد
قلت :
( عصام شاخبارك مشتاقين ، بعدك تلعب سلة ) فاجئته بهذا السؤال كي اشغله عن التحقيق معي عن اسباب وجودي في دائرة الجوازات.
كان من افضل لاعبي السلة في الاعدادية لطول قامته ورشاقته. كنا نراه دائما في الاوقات الفاصلة بين الدروس يرمي كرة السلة بسهولة مدهشة في الشباك.
( يا سلة! اني هسه مقاول كبير ، ماتسمع بي؟)
و بدأ يسرد لي قصة حياته وبرهن بالدليل القاطع حسبما قال لي ان لاحاجة للاجتهاد في التعليم والمدارس وهو مضيعة وقت ليس الا.
( شوفني قال وانتبهت الى كرشه الكبير
شوفني مافلحت بالدراسة وشنو يعني
اني موهوب واستغليت مواهبي على اكمل وجه.)
عصام كان يريد ان يثبت لي ان سنين فشله في الدراسة كانت هي الحافز لان يغير حياته. لم اصغي لبقية التفاصيل التي اصر على سردها وانا بين الحياة والموت، بين قسم الامن الذي ما انفكت عيني عن مراقبته ودائرة الاصدار التي بدت بعيدة المنال بوجود عصام في هذه اللحظة المفصلية من خطتي للهروب.
قاطعته وانا استجمع شجاعتي أو بقاياها للافلات والوصول الى دائرة الاصدار وتسليم ملف المعاملة قبل ان يتوقف قلبي المسكين عن النبض.
( عصام خليني نشوفك – اني مستعجل)
( ماگتلي انت وين صرت مقطوعة اخبارك )
كان يحدث الهواء لانني صافحته وارتديت طاقية الاخفاء.
من حسن حظي ان الممر الى دائرة الاصدار كان مزدحماً وتسللت ضمن الجمهرة التي كانت تحاول الوصول الى شباك النجاة الاخير
وصل ملف معاملتي الى داخل دائرة الاصدار بعد ان لامست ذراعي الممدودة خلال الشباك عشرات الاذرع الاخرى في توسل الى الضابط الذي اخذ المعاملات وهو يعيد ذات الجملة برتابة ووجه متعرق:
تعال بعد ٣ ساعات
تعال بعد ٣ ساعات
انسحبت من كتلة الترجي التي عانقت شباك دائرة الاصدار واحسست بخفة طائر .
كان همي الاوحد الان هو الاختفاء كلياً قبل ان يراني عصام مرة اخرى ويسألني عن سبب تشريفي لدائرة الجوازات. لم اكن مهيأ لأي استجواب اخر بعد رحلة المشقة هذه.
نفذت ذخيرتي من الاجابات المحسوبة بدقة والتي لاتحتمل التأويل. حنجرتي قررت الاضراب و حبالي الصوتية الاعتزال حتى اشعارٍ آخر.
قررت خلال الساعات المتبقية حتى اصدار الجواز العودة الى الحياة الطبيعية والغاء شخصية احمد داخل اسوار السجن المتخيل واستعادته من قبضة ضابط الامن التي ظلت تلازمني حتى وانا في سيارة الاجرة متجهاً الى مركز بغداد الجديدة لقضاء ساعات الانتظار الثلاثة قبل اللحظة الموعودة لاستلام جواز السفر.
يتبع.