عبد الكريم عيسى – كاتب عراقي
ابتداءً , لابد من الاشارة الى ان موارد الامكنة العراقية بظلالها الحسية والروحية , المادية والانسانية و الاجتما- ثقافية في ذاكرة كتاب (( ابناء المكان في معنى السكون والحركة , للسارد المبدع ( حضير فليح الزيدي ) تعود الى العقود الثلاثة الاخيرة للقرن العشرين وما تضمه في تلافيفيها من تداعيات ومعانات انسانية وشظف العيش والحروب وشتى الاوضاع القسرية وظلم وجور الحصار الاقتصادي وظلاله المأساوية على حياة الناس وتصدع المنظومات القيمية المجتمعية , الى جانب جذورها المنغرسة في فترات زمنية ماضية و امتداداتها الى فترات زمنية لاحقة . اذ تمثل الامكنة مسرحا للدلالات والبنى الموضوعية . فهي بمثابة مستودعات لاحتواء الذوات الانسانية , وملتصقة بحياة الناس في محمولاتها واسقاطاتها المادية والروحية والاجتما-سياسية – ثقافية والاقتصادية والنفسية . كما تحفل الامكنة , هنا , والمنتقاة بعناية سارد عليم , بتصورات داعمة لحضورها كشروط لامكان حدوث الظواهر , فضلا عن ذلك , كونها تمثل اسسا للمرئيات الخارجية , وفي نفس الوقت , منجذبة نحو الخيال وليس فقط ابعاد هندسية , ومكثفة للوجود بحدود ما تتسم به بروح الجماعة . لذلك يقول السارد – المؤلف ( خضير فليح الزيدي) : (( على هذا الكوكب المتآكل , وفي هذا المستنقع منه تشتغل ذاكرتان اشتغالا حاسما , الاولى ذاكرة تداعي الصور , تدعى بصرية محضة , ……….. الى قوله :- والاخرى تخيليّة من وحي الروح ….., ص9)) . كما انها ارضيات خصبة تنطلق منها الرؤى والافكار . وتاتي مشحونة بتفاعلات شخوصها و ما يفرزونه من وعي واخلاقيات و سيرورات حياتية متنوعة . فلم تعد امكنة السارد ( الزيدي) محددة بمساحة او تراكيب هندسية فيزيائية , فحسب , بل هي كينونات وافعال وتاريخ . وقد جاء استنطاق وتحفيز وانتزاع المسرودات القارة فيها عبر ستراتيجية كسر الصمت بدراية سادر ماهر اكسبها قوة . فتحولت بفعل حيوية سردياته التي يتمازج فيها الواقعي مع التخيّلي بطريقة مدهشة , الى كيانات واقعية و رمزية و شرائح وقطاعات ومدن , نستمتع بمشاهدها البصرية ونصغي عن كثب الى ايقاعاتها الحركية . ويدعم ذلك قوله : (( الايقاع هو الناظم الاعظم للحركة و السكون في هذا الكوكب المتأرجح . هو الذي يضبط لنا مواقيت المجيء والذهاب في المدن . وهو من يُضفي على الموجودات المكانية خاصتها . للزمن ايقاعه الحركي , ص11). فتتسع المديات الاتصالية و العلائقية والتبادلية التاثيرية بين الزمان و المكان ,وايضا, استثمار التوظيف السيميائي لارضية العلاقات اللغوية وانتاج الانساق الدلالية لاثراء ستراتيجية معنى السكون والحركة .
ان الامكنة بناء للروح وصياغة لمشروع انساني , وتاسيس لعلل وجود الاثار , والحكي لما لها من علاقة جوهرية مع الذوات الانسانية وكياناتها فجاءت موضوعات هذا المنجز باليات استنطاق احاديث الامكنة و مضمراتها اللغوية المشحونة بها وما تحمله وتكتسبه جزئياتها من دلالات وصلات وجودية . ويمكن معاينة ذلك في فصل ” المقهى في حالة سكون ” : (( بعد لازمة كل مدينة محطة استراحة لكسر ايقاعات المدينة السريعة وتهشيم عفاريت الزمن المتكالب وسرعته , ص16 )) . ففي ذلك فرض نسق تجميعي للتشتت الانساني . اذ تتحرك الامكنة كبؤر و مصادر قيّم , كاشفة عن شخصية الانسان لما يعطيه من قيمة عبر تجاربه وخبراته الحياتية . وتشتغل لدى السارد المؤلف ستراتيجية الوصف الجغرافي الفوتوغرافي للمكان متزامنة ومتحاثية ومتفاعلة مع الوصف الذهني الادبي – الفلسفي – الجمالي لرسم المكان , الى جانب استثمار حيوية مهارات تقانات السرد ومديات مقترباته وانشباكه بالفنون السمعبصرية والانساق الثقافية والمعرفية . فيورد في فصل ” السينما مكان سبورة الاحلام ” : (( السينما لم تكن ملهاة وتزجية للوقت , بل غدت مادة ثقافية في منتجها , ص 49)) . ويتمرأ المؤلف السارد مع الصور المكانية التي تقيم على تضاريس ذاكرته بقصدية واعية ويميل الى التحليل بين ذاتين ذات الكاتب وذات القارئ , ففي فصل: ” محطة القطار مكان اخر يتحرك ” يقول : (( المحطة مكان ثابت يتعانق مع امكنة متحركة تبقى في ذاكرة المسافرين . يختزن المسافر بذاكرته صورا مثلى لتراجيديا التنقل القسرية , ص 55))
وتمثل الصور لديه في ذاكرة الامكنة مراكز احتشاد الذوات و ماهية حيواتهم ومتغيراتها واثرهم على شحنها بطاقة حركية محفزة لسكونيتها وجعلها تنسحب من عزلتها وتحيا في مسارب الذاكرة وامتداداتها الزمنية . ففي فصل ” المحكة مكان الشكوى الى الله ” , يورد ان (( الايقاع هنا يختلف عن كل ايقاع في المدينة , فهذا المكان يُنتج ايقاعا قلقا , ص77)) . وتتضح ثيمة انسحاب المكان من عزلته في فصل ” مركز الانعاش , مكان لاستعادة الثقة بالبياض ” حين يقول (( مهما اختلف الايقاع تبقى الحركة مستمرة في ردهة انعاش القلب , ص 97)) ويمكن معاينة ذلك في القفلة المؤثرة لفصل ” الفندق مكان المبيت المؤقت ” , يقول : (( الفندق رحلة غير موفقة في كسر رتابة البيت . رحلةٌ يرتبك فيها ايقاع الزبون داخل صندوق من الحجر , ص 107)) .
ويتصل اسلوب التوظيف لدى ( المؤلف) بالخصوصيات الثقافية وشتى تمثلاتها . ومن خلال شعرية اللغة المحفزة لشعرية المكان , يمنح الكاتب المكان حركة ويبث فيه الحياة . كما يسهم الفضاء الجغرافي للمكان و البيئة المحيطة به والفضاء النصي باحرفه الطباعية وعنوانه الرئيس كعتبة نصية تحمل انفتاحا دلاليا مؤثرا على العنوانات الفرعية الداخلية و طريقة تصميم غلافه الامامي الذي يهيمن عليه اللون الاحمر المفعم بالحياة و الحركة الى جانب الالوان الزاهية الاخرى , سيما في النصف الاعلى المحفزة للألوان البادرة الساكنة في نصفه الثاني , مشكلا عتبة نصية حيوية موازية الى ثيمة الكتاب في معنى السكون والحركة . اضف الى ذلك , طريقة تنظيم الفصول والفضاء كمنظور وفاعلية زاوية نظر المؤلف في تنشيط دائرة تلقي سرديات الامكنة في اوضاعها السكونية والحركية. و من ثم , يسهم الفضاء الدلالي وما يضفي بإثراء لغة مجازية وايحائية حافلة بالمكافِئات الاستعارية والكنائية .
ويشتمل الكتاب على قسمين : يضم القسم الاول تمهيد بعنوان : انتم المدن وانا المكان عشرة فصول و هي على التوالي 1- المقهى مكان في حالة سكون 2- حمام النساء مكان في رائحة عطرة 3- السينما مكان سبورة الاحلام 4-محطة القطار مكان اخر يتحرك 5- القمامة مكان الكنز المفقود 6- المحكة الشكوى الى الله 7- مغتسل الموتى مكان زيارة لمرة واحدة 8- مركز الانعاش مكان لاستعادة الثقة بالبياض 9-كائن السجن مكان حركة المتر * متر 10- الفندق مكان البيت المؤقت ويشتمل القسم الثاني الموسوم ب (( ابناء المكان في الموت والحياة )) ستة فصول وهي على التوالي 1- الاباء والبنون 2- الابن الفيلسوف 3- الابن الملثم 4- ابن الذاكرة 5- ابن الصورة 6-ابن الحرب
*صدرة هذا الكتاب عن دار خطوط وضلال للنشر والتوزيع , الاردن , عمان , الطبعة الاولى 2021 . ويقع في 150 صفحة من الحجم المتوسط