حسين فوزي
في ظل النظام السابق فُرضت إجراءات رادعة بالغة القسوة بشأن المضاربة بالدولار والعديد من التعاملات به، لكن هذه الأجراءات التي وصلت إلى إعدام مجموعة من التجار وبقية رجال الأعمال لم تستطع الحيلولة دون تضاؤل قيمة الدينار العراقي أمام الدولار وبقية العملات.
ذلك أن غياب وعي قيادة الدولة لكيفية إدارة شؤون البلاد عموماً، وأمور الاقتصاد والمال بالأخص، أدت إلى هبوط مروع للدينار العراقي أمام العملات الصعبة والذهب، حتى صار كل 3000 دينار دولاراً واحداً، بعد أن كان الدينار قبل الحرب مع الجارة إيران 3.4 دولار. فقبل المنزلق الجنوني العبثي للحرب مع إيران، كان الإنفاق الرئيس على مشاريع متنوعة، ضمنها قيام صناعات خفيفة ومتوسطة، وكان الأمل أن العراق يتجه إلى مرحلة إنتاج السيارات الشخصية والشاحنات وتوسع شبكة المواصلات من الطرق وسكك الحديد والنقل الجوي في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، بجانب إكمال مترو بغداد عام 1984.
وبغض النظر عن سياسة القمع الدموي المتصاعدة التي مارسها النظام الشمولي مع زيادة قوة مسكه لمفاصل السلطة بشكل ملحوظ بعد “تأميم” النفط بذريعة قمع التأمر الأمبريالي، فأن الحقيقة التي لن يختلف بشأنها أي مراقب موضوعي هي أن الاقتصاد العراقي كان يضاف له: مبان وطرق ومنشأت صناعية منتجة وزراعة تتطور بدخول آليات حديثة. وهذا كله عزز من قيمة الدينار العراقي، وكانت أسعار المواد الغذائية متيسرة للأسر العراقية متدنية الموارد.
إستنزاف الدينار العراقي بدأ مع مخطط التسلح الكبير ومن ثم خوض الحرب مع إيران تحت شعار”حماية البوابة الشرقية”، وهو المخطط الذي شجعت عليه الولايات المتحدة وبقية القوى الغربية، ضمن حسابات أستراتيجية للأستحواذ على جميع عوائد النفط من منطقة الخليج العربي بذريعة مواجهة بعبع الثورة الإسلامية الإيرانية والتشيع. دون أن يعني هذا عدم انتقاد سياسة طهران ورفعها شعار “تحرير القدس يمر عبر كربلاء وبغداد”، الذي شكل لافتة عقائدية لتصدير الثورة في المنطقة.
وهكذا صار النظام بعد أن استنزفت الحرب احتياطه من العملات الصعبة، في ظل إلغاء أهوج لإستقلالية البنك المركزي العراقي، وأستسهال طبع العملة الوطنية بدون غطاء، وهي الحالة التي كان أبلغ وصف لها ما قاله السيد حاتم عبدالرشيد رئيس ديوان الرقابة المالية “كلف بناء الجسر ذو الطابقين الدولة حزمتي ورق وزجاجة حبر…”
حالياً رصيدنا من العملة الصعبة بلغ 115 مليار دولار، وجاء قرار البنك المركزي الأخير برفع قيمة الدينار ليصبح قرابة 132000 لكل 100 دولار خطوة معبرة عن واقع قوة الدينار على أساس غطائه من العملات الصعبة.
لكن المعضلة هي أن السوق الموازي قد “أحرن” عن الإستجابة للقرار، فأوقف عمليات البيع والشراء، بذريعة انتظار الأستقرار ووضوح نتائج القرار، بمعنى أن تجار العملة لم يحسوا بوجود منافذ تفك من قوة قبضتهم على التحكم في سعر الدولار…فتطبيق قرار البنك المركزي بحاجة إلى منافذ متعددة ومتنوعة بفعالية عالية من السرعة في إنجاز عمليات البيع والحوالات والأعتمادات بأنواعها المتعددة، كي تجبر المضاربين على الانصياع لتسعيرة المركزي…إلى جانب منافذ المطارات لتقديم الدولار للمسافرين.(وهنا يتساءل كثر من المواطنين: لماذا لا توفر سلطات البنك المركزي تسهيلاً لكل الموظفين والمتقاعدين حق الحصول على نسبة معينة من رواتبهم بالدولار شهرياً، على ان يكون من حق المواطن المستفيد حق التمتع بهذا الحق في الوقت الذي يحتاجه متراكماً؟)
قوى معرقلة
ولا أظن أن مجلس إدارة المركزي ولا أي متخصص في شؤون النقدية والمالية يخفى عليه وجود أطراف وظفت تسعيرة الدينار السابقة عندما كان 1200 للدولار، كذلك عندما صار 1500 للإتجار بالدولار وجني ارباح هائلة، لذلك فهي حريصة الان على توظيف الحالة الجديدة للمزيد من المضاربة، طالما أن المنافذ المعنية بتنفيذ قررا رفع قيمة الدينار لا تدخل السوق المالي والنقدي والتجاري بكامل فاعليتها. وبالطبع فأن إدارة بعض المصارف الخاصة هي طرف في المضاربة، في ظل حقيقة أن طبيعة الإدارة البيروقراطية للمصارف الحكومية، وتلكؤ موظفيها في تنفيذ سريع وفاعل للقرار، عاملان مضافان يخدمان الأطراف المضاربة على حساب المواطنين.
إن سلطة البنك المركزي في إدارة السياسة النقدية للبلاد تتعرض لإمتحان كبير، ومن المؤكد أن خبرات ملاكها تعي تماماً أن إدارة قيمة الدينار العراقي ليست مجرد قرار إداري، بل هو قرار يستند إلى مجموعة عوامل، منها جدية تنفيذ القرار من خلال فعالية المنافذ وسرعتها في تطبيقه لإيجاد حالة من التوازن بين العرض والطلب من جهة، ومن جهة أخرى فأن “صرف” دولارات العراق على عمليات الأستيراد الاستهلاكي يعني على المدى المتوسط،أستنزاف لقيمة الدينار ثانية، لكن هذه المرة ليس بالحروب العبثية، لكن في استمرار ريعية الاقتصاد أحادي الموارد وتصاعد نفقات المجتمع الاستهلاكي، بعيداً عن منهج التنمية المستدامة، من خلال تشغيل كل ما هو متاح من وسائل الانتاج وتحديثها وإقامة المزيد من الصناعات الخفيفة والتكميلية وصولاً إلى الصناعات المتوسطة بالأقل، في ظل خطط للنهوض بالإنتاج الزراعي من خلال معالجة شحة الكهرباء وندرة المياه.
كما أن السلطات المعنية يمكن لها أن تخفف من الضغط على طلب الدولار من خلال تولي وزارة التجارة عقد صفقات شراء للمواد الغذائية وغيرها من احتياجات السوق العراقية، على ان يتم بيعها لصغار التجار وغيرهم بأسعار الكلفة. فبعد أيام من رفع قيمة الدينار مازالت اسعار جميع السلع على حالها، فالتاجر الصغير ينتظر تحرك سعر الدولار في السوق الموازية قبل أن يعدل اسعاره، وهذه الحالة ستظل قائمة بوجه اي قرار حكومي ما دامت منافذ الدولة ضعيفة.وهنا يمكن إحياء الأسواق المركزية والجمعيات التعاونية على اوسع نطاق، دون أن يعني هذا الاخلال بقوانين السوق وحرية التجارة لكن في ضمان ان تكون قوانين السوق “اجتماعية”، بمعنى مراعاة ضعيفي الموارد ومحدوديها، فهذه حال معمول بها حتى في الدول الرأسمالية المتقدمة كذلك الوسيطة مثل تركيا.
موازنة تفوق قدرات اجهزة الدولة
من ناحية اخرى فأن ما يدور من طروحات بشأن الموازنة المرتقبة للعام الحالي التي يشار إلى انها ستكون بحدود 150 ترليون دينار، تثير مخاوف كل خبير اقتصادي متخصص، ذلك أن كل الموازنات السابقة لم تستطع الجهات التنفيذية من تحقيق انفاقها في الأغراض المخصصة لها، بسبب محدودية القدرات أو الظروف القاهرة، فكيف هو الحال مع “موازنة انفجارية”. في ظل حقيقة صارخة هي لجوء البعض لإنفاق ما خصص له لشراء الاثاث والقرطاسية غير الضروريين لإستنفاذ المخصصات في موازنته، وهو هدر كبير وفيه مجال صارخ للفساد، فيما يتم تكديس الاثاث السابق والقرطاسية بشكل قابل للتلف والاندثار.
كما أن السعي الظاهر لإسترضاء شرائح المجتمع من خلال زيادة حجم المشمولين بـالإعانة الاجتماعية والتعيينات، قد تكون مقبولة نسبياً ضمن توجه الدولة لرعاية الشرائح الأكثر فقراً والعاطلين من الشباب، لكن المفروض أن تستند هذه المسألة إلى الوعي بضرورة خلق فرص عمل منتجة، وليس مجرد سياسة سد الأفواه بلقمة خبز حالياً، فيما يظل الخطر قائماً في سلب لقمة الخبز من افواه غالبية العراقيين في حالة تدني اسعار النفط لإي سبب كان لاحقاً كما عشناه مرات عديدة.
إن موازنة تتسم بقدر من التوازن بين التشغيل وبين الاستثمار القصير الأمد والمتوسط تشكل حلاً مستداماً للبطالة وتوفير فرص حياة لكل العراقيين، وانتشال الشريحة التي هي الان دون خط الفقر، من خلال العمل على تسريع تنفيذ مذكرات التفاهم مع الصين وألمانيا وفرنسا بشأن معالجة العديد من الملفات الملحة، بكل ما تعنيه من سد احتياجات حيوية ملحة من جهة، وتوفير فرص عمل من ناحية اخرى.
وبالأخير ماذا عن الأموال الفائضة من موازنات الدولة السابقة، فمنذ عام 2013 هناك حسابات ختامية لم يتم حسمها، والمؤكد هو وجود أموال متراكمة لم يتم حسابها بدقة، ما يعني أن الحكومة بحاجة إلى حسم هذا الملف ضمن جهودها القيمة لمحاربة الفساد، فعدم توفر حسابات ختامية مصادق عليها من ديوان الرقابة المالية أولاً ومجلس الوزراء ثانياً، لتشرع في قانون الموازنة من قبل مجلس النواب، يظل ثغرة بالغة للخطوة للفساد للعبث بالموارد العامة وانفاقها.
وهذه كلها منافذ استنزاف لقيمة الدينار ولقمة خبز العراقيين وفرص الحياة الأفضل التي نطمح لها التي وعد رئيس الوزراء السيد محمد شجاع السوداني على ان يعمل ووزارته بكل طاقتهم على تحقيقها…
موازنتنا العامة والدولار وأساليب الإدارة / حسين فوزي
(Visited 15 times, 1 visits today)