نرى يومياً، على صفحات التواصل الاجتماعي وقنوات فضائية اعلانات ممولة ومغرية
تدعو الى اقتناء قبراً جمياً واسعاً رحباً، والأهم من ذلك إنه إنموذجياً في محافظة
النجف. قبر قد يحتوي على عدة ميزات يسميها أصحاب هذا المشروع ب «فرصة
الاقتناء »، وهم ، ربما يعبرون -بشكل ضمني وبما بين السطور- بإعلاناتهم الكبيرة
بأن هذا التميُّز يشمل عفوا إلهياً استثنائيا أو تخفيفا لعذاب القبر، ولربما غياب منكر
ونكير ، أو عدم المرور بعالم البرزخ الذي تناوله القوجاني في «سياحة في الغرب . »
الواضح إن هدف هذه الاعلانات، قبل شرائك للقبر الانموذجي، أن تنتابك رغبة
بطيّ الزمن والذهاب الى تجربةٍ ما، دفعت لأجلها مالا ليس بالقليل، فمغريات
الاعلانات لا تقلُّ تأثيراً في النفوس من الترويج لشراء منازل المجمعات السكنية
الحديثة التي تستخدم فيها آخر الابتكارات التكنولوجية، والطاقة النظيفة.
أكثر من ذلك فإن الكثير من الفنانين المشهورين الذين يملؤن شاشات القنوات
الفضائية، تحولوا الى ممثلين اعلانات لترويج القبور النموذجية لإغراء الناس،
وتعريفهم بميزات القبور الحديثة في مدينة يعتقد الكثير من سكانها أنها مدفن
وليست مسكن! او كما يقول احمد الصافي النجفي :
ان الغري بلدة تليق ان يسكنها الشيوخ والعجائز
فصادرات بلدتي عمائم و وراردات بلدتي جنائز
يجتمع الكثير من الناس هنا حول مفاهيم غيبية ذات مردود مالي كبير، فهم
يعتقدون إن الدفن يرتبط بالمكان كارتباطهم بالحساب والثواب والعقاب، ويبدو
انه نوع آخر من الترويج لمهنة يمتهنها لجمهور من السكان المحليين.
الهدف من هذا الاستثمار )المغري( لغالبية المواطنين في العراق هو الربح الفاحش
باستغلال قدسية المدينة ومكانتها في نفوس المسلمين، ورمزيتها الروحية
باحتضان ارضها لضريح الامام علي عليه السام، فهو استثمار مزدوج لعقيدة
الناس وأموالهم بذات الوقت، وقد نجح المستثمرون في إستمالة الزبائن من
الراغبين بموت أجمل من حياتهم التي يتقاسمون فيها البؤس والمتاعب.
لكن المفارقة في هذه المدينة ان اهلها من اكثر مدن العراق حباً للحياة.
يتعاملون بعناية مع مفردات الحب والجمال، والخيال والتمرد والسريالية العالية،
فهي مدينة الشعر والادب والثقافة والفن والتنوير الديني، مدينة الحبوبي
والجواهري وجمال الدين والصافي النجفي والغارق في السريالية حسين قسام،
ورائد الكوميديا العراقية صادق القندرجي، والمتمرد الواعي عبد الامير الحصيري،
ورائد الصحافة العراقية والقصة القصيرة جعفر الخليلي ويوسف رجيب وصوت
الارض ياس خضر وغيرهم، تربوا في ازقتها الضيقة وانطلقوا في شوارعها التي
تعج بعبق التاريخ وومضات الاحداث التي غيرت وجه العراق والمنطقة.
أجهزت إعلانات الموت الممولة على جهود عظيمة على بذلها شباب هذه
المدينة لاكثر من عشر سنوات على مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان «النجف
مو بس مقبرة » حاولوا من خلالها ابراز مشاهد جميلة تبعث على الحياة، وتعزز
رغبة المجتمع في تغيير النظرة النمطية للنجف على انها مدفن فقط.
الصورة الجميلة التي يعرفها ابناء هذه المدينة المرتبطة بعشقهم لمحافظتهم لا
تتناسب مع ما تنشره الصفحات التي تعلن عن بيع وشراء المقابر النموذجية، ولا
تتناسب مع رغبة عامة بصناعة الحياة، والاعان عنها، بدل اعان بيع المقابر.
المسافة طويلة وواسعة بين رغبة الناس بالحياة وبين مستثمرين يتخذون من
الموت سلعة وتجارة باستغلال المقدس بغض النظر عن كل الاعتبارات الدينية
والمجتمعية السائدة، الا أن هناك تناقض واضح بين نزعتين احداهما تمثل عموم
وغالبية الناس، والاخرى تمثل مجموعة صغيرة من التجار الذين يبتغون الربح
السريع والمضمون، بغض النظر عن اي صورة او طابع يمكن ان يضّر بالمدينة.
المشهد الطبيعي ان نبادر لصناعة الجمال والحياة، فالله سبحانه وتعالى يقول
«ليستعمركم فيها ». اي ليعمر بكم الارض. ما ينبغي مشاهدته هو الاعمار من
مشاريع البنى التحتية، والجسور، والمصانع، والاحياء العصرية، الابراج العالية
والمزارع النموذجية، والمدن الذكية، اما انك لا ترى سوى اعلانات التبشير بالموت
فهناك خلل، وانحراف قيَّمي فالدار الاخرة لا تكمن برفاهية القبر وشكله الخارجي
ولا بنوع الزهور الموضوعة فوقه بل بالعمل الصالح من اجل المجتمع «فخير
الناس من نفع الناس »، وصَدق الامام علي عليه السام حين قال:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
الا التي كان قبل الموت بانيها
فأن بناها بخير طاب مسكنها
وان بناها بشر خاب بانيها
