شهد العراق بحقبة السومريين وعصر السالات، فترة من
الإنقسامات والتناحر بين سكان المدن خاصةً في القسم
الجنوبي من باد ما بين النهرين، لأسباب إقتصادية غالباً
ما تكون حول السيطرة على المياه ولأغراض زراعية.
حتى وصل الحال أن تقوم في كل مدينة مهما كان حجمها،
وتأثيرها، حكومة أو مملكة خاصة، وهي أبشع صورة للفرقة
التي من تداعياتها الطبيعية أن الضعف، وفقدان صفات
القوة، والإقتدار، التي من الممكن أن يتمتع بها العراق
آنذاك.
ومع الفارق بين عوامل الفرّقة، ومقومات الدولة، فإن
النتائج تكون واحدة في مختلف مراحل التأريخ، حيث تسوق
السياسات غير الممنهجة، والمتخبطة، والفئوية، والناتجة من
منطلقات شخصية، وأيدلوجيات فردية «قد تكون دينية ،»
تقود تلك التحركات الى بناء فكر سلبي هدام، يقوض
النهضة بمختلف المجالات، ويضرب تطلعات المنظومة
البشرية المحكومة بنتائج تلك السياسات والتخبطات غير
المنضبطة بالنظام القانوني، أو العرّفي السائد، غير عابىء
بكل مفاهيم دولة المؤسسات، ومدنيتها المفترضة،
والمنصوص عليها بمختلف الدساتير في العالم، بما فيها
الدستور العراقي الحالي، الذي غادره الكثير من القائمون
على حمايته، والمسؤولين عن تنفيذه حتى تحولت معظم
مفردات العملية السياسية، وهي الإطار- المفترض- والجامع
كل لكل العراقيين، ومنظم عام لحياتهم السياسية، الى
مسارات عمل حزبية لا تلتقي الا في محافل محددة لبناء
قوى غالبيتها بعيدة عن الصالح العام.
دويات الأحزاب هو المرسوم الإصطلاحي للحياة السياسية
ما بعد 2003 في العراق، فقد شرّع مجموعة من زعامات
الكتل السياسية والحزبية الى إبعاد أدوات بناء المؤسسات
والأجهزة الحكومية عبر تشكيل مراكز حزبية بديلة،
وبمختلف الإختصاصات، الإقتصادية والعسكرية، بل وحتى
الأمنية، وعلى حساب المساحة القانونية والدستورية لكيان
الدولة.
وتنامت تلك البناءآت حتى أصبحت واقعاً مفروضاً، لا يخضغ
للمتغيرات السياسية في نظام الحكم، وإشغال المناصب،
يزاحم الوجود الإعتباري للدولة، والأخلاقي للحكومات، وهو
منطق راسخ بقوة الساح، ودعّم مراكز القوى المتكونة من
المال السياسي أياً كانت مصادره، ويقف خلفه جمهور كبير
من الكوادر والمستفيدين من هذا الخلل في بناء الدولة
الذي أدى لظهور تلك المواقع السلطوية المتسيدة على
المقدرات البشرية والمادية لجوانب كثيرة من الحياة العامة
في الباد.
وبعد أكثر من ثلاثة آلاف عام هي الفترة بين نشوء دويات
المدن، ودويات الأحزاب الآن، فإن قانون التأريخ والحياة
له سمات موحدة، وبارزة، فالخلل في التركيبة المجتمعية
والتربوية يفضي الى نظام سياسي غير مؤهل للقيادة،
فتنفتح ثغرات يتسلل من خلالها العابثون، والمتصيدون،
من تجار الأزمة، فتتبدل أحوالهم الى صنّاع للقرار السياسي
والإجتماعي والإقتصادي لأي بلد، هؤلاء دائماً ما يكونوا
حجراً يتعثر به عشاق الحياة الكريمة، حيث يبني معظم
شباب وأبناء الباد آمالهم في تخلل موازين تلك القوى
لصالح الشعب.
وقد تضرب تلك الأحجار عمداً رؤوس من يحاول أيقاض
العامة، بأن ثمة دولة يمكن أن تلتقي بها كل الإتجاهات،
والتوجهات، دولة تُصهر فيها كل المراكز، والدويات كما
فعل «دوكال كاريزي » آخر ملوك سومر من توحيد دويات
المدن وتأسيس دولة موحدة بين النهرين، تلك التجربة
التي تكررت مع فيصل الأول في بداية القرن الماضي،
عندما توحدت الولايات الثاث الرئيسية، وذابت معها كل
العناوين والأسماء، لصالح عراق حُر موّحد.
دويلات الأحزاب ومراكز القوى
(Visited 6 times, 1 visits today)