مرتضى صالح
في صبيحة يومٍ من أيام تشرين، ارتفعت أصوات الشباب في شوارع بغداد ومدن العراق الأخرى، تردد صدى مطالبهم كما لو أن الزمن توقف ليعيد إحياء روح الشعب المكلوم. كانت السماء ملبدة بالغيوم، لكن قلوب المحتجين مشتعلة بأملٍ يطمح لواقعٍ أفضل. لم تكن انتفاضة تشرين مجرّد احتجاجٍ عابر على ضنك الحياة، بل كانت في جوهرها ثورةً على عقودٍ من الفساد والظلم والخذلان.
اندلعت الشرارة في أكتوبر 2019، لكنها لم تكن وليدة اللحظة. كل شيء كان يتهيأ لانفجارٍ شعبي؛ بطالة الشباب التي زادت حدتها، بنية تحتية منهكة، فسادٌ يزحف كالأفعى في كل زاوية من زوايا الدولة، وشعور عام بالخيانة من قبل الطبقة السياسية التي لم تعد تسمع سوى صوت مصالحها. هذا الوضع القاتم دفع الآلاف إلى الشوارع، ولكن ما جعل تشرين استثنائية ليس فقط حجم المشاركين، بل روح التحدي التي لم تعرف الاستسلام.
حين ننظر إلى شوارع بغداد المكتظة بالمحتجين، نجد أن تشرين كانت تجسيدًا لرغبة جيل كامل في استعادة الوطن. هذا الجيل الذي ولد في زمن الحروب والحصار، عاش في ظل وعود كاذبة وخيبات متتالية، لكنه وجد في تشرين نافذةً للتعبير عن رفضه. كان الشباب يقفون متسلحين بإرادة من فولاذ، في وجه الرصاص والغازات المسيلة للدموع، يصرخون بشعارهم الخالد: “نريد وطن!”.
لكن، هل كانت مطالب تشرين مجرد مطالب مادية؟ أم أنها تعبير أعمق عن رغبة في استرداد الهوية الوطنية المسلوبة؟ تلك الهوية التي تمزقت تحت وطأة الطائفية والمحاصصة السياسية؟ كان العراقيون يسعون إلى ما هو أكثر من الخدمات والوظائف؛ كانوا يريدون دولة تستعيد كرامتهم وتمنحهم الأمل في مستقبل يليق بأحلامهم.
في تلك اللحظات، كانت الروح الجماعية تتبلور في الساحات والميادين، حيث يجتمع العراقيون من كل الأطياف والخلفيات. تشرين لم تفرق بين سني وشيعي، كردي وعربي. كانت تلك اللحظة التاريخية التي تجاوزت فيها الهوية الفردية لتصبح هوية شعب بأكمله، يطالب بحقوقه دون تمييز أو تحزب.
في التحليل الأعمق، يمكننا القول إن تشرين لم تكن فقط حركة احتجاجية؛ بل كانت تمردًا على مفهوم “العجز السياسي” الذي ساد لعقود. في خضم هذه المعركة، لم يكن الهدف فقط تغيير حكومة أو تحسين الخدمات، بل كان الرهان الأكبر هو استعادة القرار الوطني من أيدي الفاسدين.
عندما نتأمل المشهد في شوارع بغداد وساحاتها خلال الأيام الأولى لانتفاضة تشرين، نكاد نشعر بدوي الأصوات وهي تخترق حاجز الصمت الطويل الذي فرضه الخوف والفساد. كانت تلك الأيام بداية لحكاية غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث، حكاية شعب قرر أن ينتفض في وجه طبقة سياسية مترهلة، محاطة بهياكل من الفساد والطائفية.
الأحداث توالت بسرعة، ففي الأول من أكتوبر 2019، انطلقت الشرارة الأولى من بغداد، وسرعان ما امتدت إلى محافظات الجنوب، من البصرة إلى الناصرية. ما بدأ كاحتجاج صغير على الأوضاع المعيشية سرعان ما تحول إلى حركة جماهيرية واسعة، تطالب بتغيير جذري في النظام. الهتافات كانت تملأ الأجواء، وكأنها رسائل تحدٍ تكتب على صفحات التاريخ بدماء الشباب. لم تكن هذه مجرد احتجاجات ضد الفساد والبطالة؛ كانت ثورة على الأوضاع السياسية التي أُحكمت قبضتها على البلاد منذ سقوط النظام السابق في 2003.
وفي خضم هذه الأحداث، برزت العديد من الرموز والشعارات التي أصبحت جزءاً من هوية تشرين، أبرزها كان شعار “نريد وطن”. تلك الكلمات لم تكن مجرد كلمات، بل كانت صرخة جماعية تعبّر عن جرح عميق يسكن في نفوس العراقيين منذ سنوات. كان “الوطن” الذي طالب به المحتجون أكثر من مجرد حدود جغرافية؛ كان يمثل الحلم بالعيش الكريم، والعدالة، والحرية من القيود السياسية والطائفية التي قسمت البلاد.
العنف الحكومي لم يتأخر، وواجهت قوات الأمن المحتجين بالرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع، مخلفة مئات الشهداء وآلاف الجرحى. لكن رغم ذلك، لم تتراجع الإرادة. بل على العكس، ازداد زخم الاحتجاجات مع كل قطرة دم سالت في الساحات. كانت التضحيات الكبرى بمثابة وقود يُبقي جذوة الثورة متقدة. كان المشهد في كل مدينة ثائرًا، مليئًا بالرموز التي أضاءت الطريق نحو حلم جديد؛ صور الشهداء المعلقة في كل زاوية، والأعلام العراقية التي ترفرف عالياً وسط الدخان والدموع.
لقد كانت الأحداث الكبرى التي شهدتها تشرين بمثابة شهادة حية على قدرة الشعوب على التغيير، حتى في أحلك الظروف.
بعد مرور خمس سنوات على انتفاضة تشرين، يمكن القول إن الحركة الاحتجاجية لم تكن مجرد لحظة عابرة في تاريخ العراق، بل كانت بداية لحقبة جديدة غيّرت ملامح الساحة السياسية والاجتماعية. فتحت تشرين الباب أمام الحديث عن إصلاحات جذرية، وجعلت من صوت الشارع العراقي قوة لا يمكن تجاهلها. ومع ذلك، يبقى السؤال الأبرز: هل حققت الانتفاضة كل ما كانت تصبو إليه؟ وهل استطاعت أن تترك بصمة دائمة في المشهد العراقي؟
من الناحية السياسية، أحدثت تشرين تغييرات ملموسة. استقالت حكومة عادل عبد المهدي تحت وطأة الضغط الشعبي، وهي خطوة لم يكن يتوقعها الكثيرون في ذلك الوقت. لكن هذه الاستقالة لم تكن إلا بداية لمسار طويل من الصراع السياسي. الحكومات التي تعاقبت بعد تشرين، بدءاً بحكومة مصطفى الكاظمي ثم محمد شياع السوداني، جاءت بوعود إصلاحية عديدة، لكن ما زال المواطنون يشككون في مدى جدية تلك الوعود وقدرتها على معالجة جذور الأزمة.
قانون الانتخابات الجديد، الذي كان أحد المطالب الرئيسية للمحتجين، أقر بالفعل، ومعه جرت انتخابات مبكرة في 2021. ومع ذلك، شكك الكثيرون في مدى قدرة هذا القانون على تحقيق العدالة والتمثيل الحقيقي للمواطنين، لا سيما مع استمرار تأثير القوى السياسية التقليدية والمليشيات المسلحة في نتائج الانتخابات. ورغم دخول وجوه جديدة إلى البرلمان، إلا أن التغيير الذي تمخض عن هذه الانتخابات لم يكن كافياً لتحقيق التحول الذي تطمح إليه الجماهير.
أما من الناحية الاجتماعية، فقد أحدثت تشرين ثورة في الوعي المدني. أصبحت الحركة الاحتجاجية رمزاً لاستعادة الدور الشعبي في مراقبة السلطة. النساء، اللواتي كنّ في السابق أقل مشاركة في الشأن السياسي، أصبحن قوة فاعلة في ساحات الاحتجاج، يقدن المسيرات ويطالبن بحقوقهن بشجاعة لم يشهدها العراق من قبل. كما أن الشباب، الذين كانوا يعتبرون مهمشين من العملية السياسية، أصبحوا يتصدرون المشهد، يرفعون شعاراتهم ويدافعون عن وطنهم.
لكن على الرغم من هذه التغيرات، يبقى الواقع اليوم معقداً. الفساد لا يزال متجذراً في المؤسسات، والخدمات العامة لم تتحسن بالشكل المأمول. التحديات الاقتصادية، بما في ذلك البطالة والفقر، ما زالت تخيم على حياة العراقيين. وهنا يتضح أن تشرين كانت خطوة أولى في مسار طويل، وأن الطريق إلى التغيير الحقيقي يتطلب مزيداً من العمل والتضحيات.
فيمكن القول إن تشرين نجحت في تحريك المياه الراكدة، لكنها لم تتمكن بعد من إحداث التغيير الكامل الذي سعت إليه. ومع ذلك، تبقى الروح التشرينية حية، تمثل رغبة العراقيين في تحقيق وطن يليق بتضحياتهم، وطن يعكس طموحاتهم وآمالهم في مستقبل أكثر عدالة وكرامة.
في الأيام الأولى لانتفاضة تشرين، كانت بغداد ومدن الجنوب العراقي تشهد ولادة لحظة تاريخية مزلزلة، حيث تحولت الساحات العامة إلى مسارح للصمود والتحدي. لم تكن هذه الاحتجاجات كأي مظاهرات سابقة، بل كانت بداية لثورة شعبية تحمل في طياتها غضباً مكبوتاً لعقود من الزمن. في ذلك الخريف، كانت الأعلام العراقية ترفرف على وقع هتافاتٍ شديدة الصدى، كأنها تعلن بصوت واحد: “لقد حان وقت الحساب!”
أحداث تشرين ليست مجرد تسلسل زمني لنقاط انفجار الغضب الشعبي؛ إنها تعبير عن كسر حالة الجمود التي لطالما خيّمت على المشهد السياسي. في الأول من أكتوبر 2019، انفجرت الاحتجاجات كما ينفجر البركان بعد سنوات من الضغط المتراكم. لم يكن أحد يتوقع هذا الانفجار الشعبي العارم الذي انتشر كالنار في الهشيم من بغداد إلى الناصرية، إلى البصرة وكربلاء. الشوارع امتلأت بالآلاف من الشباب، رجالاً ونساءً، يطالبون بإنهاء الفساد واستعادة الكرامة الوطنية.
كانت الشرارة الأولى لتلك الانتفاضة موجهة ضد الفساد المتغلغل في مفاصل الدولة، لكن سريعًا ما اتسعت المطالب لتشمل إسقاط النظام السياسي برمته. وفيما كان العالم يتابع بدهشة هذا التحول الكبير، كان الشعب العراقي يكتب فصلاً جديدًا من النضال الشعبي. مشاهد الشهداء والجرحى كانت حاضرة في كل زاوية، ومع كل سقوط شهيد، كانت عزيمة المحتجين تزداد قوة وصلابة. بدا وكأن تشرين لم تكن مجرد حدثٍ سياسي، بل كانت ولادة جديدة للعراق، بدماء جديدة وصرخات تصدح بالحقيقة.
أمام هذا الزخم الجماهيري، لم تكن الحكومة العراقية قادرة على احتواء الأوضاع دون اللجوء إلى العنف المفرط. مئات الشهداء وآلاف الجرحى سقطوا في مواجهات دامية مع قوات الأمن، ومع ذلك، لم يتراجع المحتجون. في الحقيقة، كان عنف الدولة يزيد الانتفاضة اشتعالاً. تحولت كل قطرة دمٍ إلى صرخة للحرية، وكل شهيد إلى رمزٍ لاستمرار النضال. كان الشباب العراقي يقف بلا خوف، مستعدًا لدفع أثمن الأثمان في سبيل تحقيق حلمه: “نريد وطن”.
الشعارات التي رفعها المحتجون لم تكن مجرد كلمات؛ كانت تعبيراً عن معانٍ أعمق وأغنى، كأنها صيغت من تاريخ العراق الطويل في المقاومة والصمود. تلك الشعارات لم تقتصر على المطالبة بالخدمات أو الوظائف، بل حملت في طياتها رغبة حقيقية في استعادة الهوية الوطنية العراقية، هوية خالية من قيود الطائفية والمحاصصة التي كبّلت البلاد لعقود. كان المحتجون يدركون أن ما يحتاجه العراق ليس مجرد تغيير حكومة، بل تغيير بنية النظام السياسي القائم على المحسوبيات والانقسامات.
عند استرجاع هذه الأحداث، يظهر لنا بوضوح أن تشرين كانت نقطة تحول كبرى. لقد أطلقت شرارة وعي جديد بين العراقيين، ليس فقط بالمعنى السياسي، ولكن أيضًا على المستوى الاجتماعي. كانت الانتفاضة بمثابة ثورة على كل ما هو تقليدي ومألوف في السياسة العراقية.
بعد مرور خمس سنوات على انتفاضة تشرين، يمكننا أن نرى بوضوح كيف أحدثت تلك الحركة الاحتجاجية تغييرات عميقة في النسيج السياسي والاجتماعي للعراق، حتى وإن كانت الإصلاحات المنشودة لم تكتمل بعد. لقد كان للحراك التشريني قوة لا يمكن إنكارها في فتح الباب أمام تغييرات سياسية كبرى، من إسقاط حكومة عادل عبد المهدي إلى إصدار قانون الانتخابات الجديد، لكن يبقى السؤال: هل استطاعت تشرين إحداث التحول الجذري الذي كان يأمل المحتجون في تحقيقه؟
في البداية، كان لانتفاضة تشرين أثر سياسي واضح؛ فالمظاهرات والضغوط الشعبية الكبيرة أجبرت حكومة عبد المهدي على الاستقالة في ديسمبر 2019، وهو ما اعتبره البعض انتصارًا أوليًا للحركة. بيد أن هذه الاستقالة لم تكن سوى بداية لصراع سياسي طويل ومعقد. الحكومات التي جاءت بعد ذلك، بدءًا من حكومة مصطفى الكاظمي وحتى الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، جاءت محملة بوعود الإصلاح ومحاربة الفساد. لكن مع مرور الوقت، بات من الواضح أن تلك الوعود لم تحقق الأثر المأمول.
على الرغم من تعديل قانون الانتخابات والسماح بإجراء انتخابات مبكرة في 2021، إلا أن نتائج الانتخابات لم تُحدث التغيير الهيكلي العميق الذي كان الشارع يطمح إليه. القوى السياسية التقليدية، التي طالما هيمنت على المشهد العراقي، نجحت في الحفاظ على نفوذها عبر الشبكات التي بنتها على مدى سنوات، سواء من خلال الولاءات الطائفية أو التحالفات مع المليشيات المسلحة. وفي حين أن الانتخابات شهدت دخول بعض الوجوه الجديدة إلى البرلمان، إلا أن الهيمنة الفعلية للقوى القديمة لم تُكسر، مما جعل الكثيرين يشعرون بأن الثورة لم تصل إلى مبتغاها.
لكن إذا كانت النتائج السياسية المباشرة محدودة، فإن التأثير الاجتماعي لانتفاضة تشرين لا يمكن تجاهله. فقد شهدت الساحات ولادة وعي سياسي جديد بين الشباب، لم يكن موجودًا قبل ذلك بهذه القوة. كان هناك تحول في الوعي الجماعي حول حقوق المواطن وضرورة مساءلة السلطة، وأصبح الشارع العراقي أكثر جرأة في مواجهة الفساد والظلم. النساء، اللواتي كنّ في السابق على هامش المشهد السياسي، اقتحمن ساحات الاحتجاج بشجاعة، يقدن المسيرات، ويطالبن بحقوقهن إلى جانب الرجال. هذه المشاركة الفاعلة من مختلف أطياف المجتمع جعلت تشرين نقطة تحول في تاريخ الحركات الاحتجاجية في العراق.
علاوة على ذلك، ساهمت تشرين في خلق شبكات جديدة من الناشطين والمنظمات المدنية التي تعمل اليوم على تعزيز المطالب الإصلاحية. هذه الحركات، على الرغم من تعرضها للقمع والتهديد، أصبحت الآن أكثر تنظيمًا وقوة من أي وقت مضى. يمكن القول إن إرث تشرين يتمثل في هذا الوعي الجديد، والقدرة على الضغط الشعبي، حتى وإن كان النظام السياسي لم يتغير بشكل جذري.
وبينما يبدو أن المؤسسات السياسية ما زالت تقاوم التغيير، فإن بذور الثورة التي زرعتها تشرين تنمو ببطء، وقد تكون أساسًا لحركات مستقبلية أكثر تنظيمًا وقوة. في النهاية، ما حققته تشرين هو أكثر من مجرد إسقاط حكومة؛ لقد أعادت إشعال شعلة الأمل في أن التغيير ممكن، حتى لو كان طريقه طويلاً وشاقًا.
حين نستعرض انتفاضة تشرين من زاوية الدروس المستفادة، نجد أنها قدمت العديد من العبر التي تعيد تشكيل نظرتنا إلى الاحتجاجات الشعبية في العراق، وفي العالم العربي بشكل أوسع. لقد كشفت تشرين عن قوة الشعب حين يقرر الوقوف في وجه الظلم، لكنها في الوقت ذاته أظهرت التحديات الهائلة التي تواجه أي حركة تسعى لإحداث تغيير جذري في نظام متجذر في الفساد والمحسوبيات.
أحد الدروس الرئيسية التي يمكن استخلاصها من تشرين هو أن الاحتجاج السلمي، برغم قسوته وآلامه، أثبت أنه أداة فعّالة في تحريك الجمود السياسي وإجبار السلطات على الاعتراف بمطالب الشعب. في مشاهد كثيرة، شاهدنا كيف أن المتظاهرين، ورغم العنف المفرط الذي واجهوه، تمسكوا بسلمية حراكهم. كانت هذه السلمية سلاحهم الأقوى، لأنها حطمت الأسطورة التي حاول النظام الترويج لها بأن أي محاولة للتغيير ستنحدر إلى الفوضى. رغم ذلك، أظهرت تشرين أيضًا أن السلمية وحدها ليست كافية دائمًا لتحقيق التغيير المنشود، بل يجب أن تترافق مع استراتيجيات سياسية واضحة وتنظيم متماسك قادر على الاستمرار.
ما جعل تشرين تختلف عن الحركات الاحتجاجية السابقة هو قدرتها على خلق شعور بالوحدة بين مختلف أطياف المجتمع العراقي. للمرة الأولى منذ عقود، وقف العراقيون جنبًا إلى جنب، متجاوزين الحواجز الطائفية والعرقية، في سبيل قضية مشتركة: استعادة وطنهم. كان هذا درسًا في القوة الجماعية، وكيف يمكن لشعب أن يتوحد حول فكرة مشتركة، حتى في مجتمع متشظٍ كبنية العراق.
لكن في الوقت نفسه، فإن تراجع زخم الاحتجاجات مع مرور الوقت يوضح لنا درسًا آخر: أن الوحدة المجتمعية، رغم أهميتها، قد لا تكون كافية لنجاح الحركة في غياب قيادة قوية وتنظيم سياسي محكم. فقد افتقرت انتفاضة تشرين إلى قيادة مركزية قادرة على تحويل الزخم الشعبي إلى قوة سياسية دائمة، وهو ما أتاح للنظام القائم استعادة بعض السيطرة عبر استخدام العنف وأدواته الأخرى من ترهيب وتفريق الصفوف.
في العمق، فإن أحد أكبر التحديات التي واجهتها تشرين هو تداخل المصالح الإقليمية والدولية في الشأن العراقي. فعلى الرغم من أن الحركة كانت عراقية خالصة، إلا أن الأطراف الخارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية، حاولت التأثير في مجرياتها. هذا الدرس يعلمنا أن أي حركة احتجاجية في دول تعاني من تدخلات خارجية تحتاج إلى أن تكون واعية تمامًا بهذا السياق وأن تعمل على حماية استقلاليتها.
فإن تشرين تعلمنا درسًا جوهريًا حول الصمود. ورغم التراجع الظاهر في الحراك، إلا أن روح تشرين لم تمت، بل لا تزال حية في قلوب العراقيين الذين يرفضون الاستسلام. لقد علمتنا تشرين أن التغيير لا يأتي سريعًا، لكنه يبدأ بخطوة، وأن هذه الخطوة قد تكون الشرارة التي تمهد لتغيير أكبر في المستقبل.
النقطة الرابعة والأخيرة تتعلق بالإرث الذي تركته انتفاضة تشرين في قلوب العراقيين وفي ذاكرة الأمة. بالرغم من التحديات والمصاعب التي واجهتها، استطاعت تشرين أن تزرع بذور وعي جديد في المجتمع العراقي، وهي بذور لن تنبت بين ليلة وضحاها، بل ستحتاج إلى الوقت والنضال المستمر كي تزهر.
من أبرز جوانب هذا الإرث هو الإحساس المتزايد بين العراقيين بأنهم ليسوا مجرد أفراد منفصلين تحكمهم هياكل سياسية فاسدة، بل هم جماعة موحدة تستطيع، بقوتها الجماعية، أن تغير الواقع. كانت تشرين بمثابة ولادة جديدة للوعي الشعبي، الذي لم يكن مقتصرًا فقط على المطالبة بحقوق مادية كالوظائف والخدمات، بل اتسع ليشمل مطالب أعمق تتعلق بالكرامة، الهوية الوطنية، والعدالة الاجتماعية.
هذا التحول في الوعي الشعبي يُعد واحدًا من أهم مكتسبات تشرين. لقد أصبح العراقيون أكثر قدرة على تمييز الألاعيب السياسية والمماطلات التي تقوم بها الطبقة الحاكمة. أصبحت لديهم قدرة أعمق على تحليل الأمور وفهم أن التغيير الحقيقي لا يأتي من خلال تبديل الوجوه فقط، بل عبر تغيير النظام نفسه ومنظومة الحكم التي تتحكم في مفاصل الدولة. لقد أدركوا أن استعادة الوطن تتطلب مجهودًا جماعيًا مستمرًا، وأنه لا يمكن الاعتماد على الطبقة السياسية وحدها لإصلاح ما تم إفساده.
ومن خلال هذا الوعي الجديد، نشأت حركات شبابية ومنظمات مدنية جديدة مستلهمة من روح تشرين. هذه الحركات، التي تقاوم اليوم محاولات التهميش والقمع، تمثل الأمل في مستقبل أفضل. إنها تمثل استمرارية النضال من أجل بناء دولة قائمة على العدالة والمساواة. ورغم أن هذه الحركات تواجه تحديات كبرى، بدءًا من قمع السلطة وصولًا إلى تدخلات خارجية، إلا أنها تحمل في طياتها شعلة الأمل التي أشعلتها تشرين.
تشرين أيضًا غيّرت الطريقة التي ينظر بها المجتمع الدولي إلى العراق. فبدلاً من الصورة النمطية للعراق كدولة ممزقة بالحروب والصراعات، قدمت تشرين للعالم صورة جديدة لشعب يتطلع إلى بناء مستقبل أفضل، رغم كل الظروف القاسية. كانت تلك الانتفاضة بمثابة رسالة قوية بأن العراق لا يزال حيًا، وأن أبناءه مستعدون للدفاع عن حقوقهم مهما كانت التضحيات.
فيمكن القول إن إرث تشرين لا يقتصر على اللحظة التاريخية التي اندلعت فيها الاحتجاجات، بل يمتد إلى المستقبل. هو إرث من الأمل والصمود، إرث يعيد إلى العراقيين إيمانهم بأنهم قادرون على تغيير مصيرهم بأيديهم. وعلى الرغم من أن الطريق إلى التغيير قد يبدو طويلًا وصعبًا، إلا أن تشرين أثبتت أن هذه الطريق تبدأ بخطوة، وأن العراقيين قادرون على المضي قدمًا، مستلهمين من روح تلك الانتفاضة التي لن تُنسى.
عند تقييم انتفاضة تشرين، نجد أن الحركة نجحت في تحقيق بعض أهدافها على المدى القصير والمتوسط، لكنها لم تصل بعد إلى تحقيق تغيير جذري في النظام السياسي. من حيث النتائج المباشرة، أجبرت تشرين حكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة وأثارت نقاشات جدية حول إصلاحات سياسية واقتصادية، مثل تعديل قانون الانتخابات وإجراء انتخابات مبكرة في عام 2021. إلا أن هذه الإصلاحات جاءت قاصرة عن تحقيق التغيير الجوهري الذي كان يطمح إليه المحتجون.
فعلى الرغم من دخول بعض الوجوه الجديدة إلى البرلمان، إلا أن القوى السياسية التقليدية والمليشيات المدعومة إقليمياً استطاعت الحفاظ على نفوذها في النظام. وبالتالي، فإن الفساد المتجذر، والمحاصصة الطائفية، واستغلال السلطة لم يتم اقتلاعها من الجذور. ورغم استقالة الحكومة آنذاك، لم تُحل الأزمة السياسية بشكل حقيقي، وما زالت مؤسسات الدولة تعاني من الشلل في مواجهة التحديات الكبرى.
إرث تشرين يتمثل في التغيير على مستوى الوعي الشعبي. فقد كسرت الانتفاضة حاجز الصمت والخوف لدى الجماهير، وخلقت إدراكاً جديداً لأهمية المشاركة الشعبية في رسم مستقبل البلاد. أصبحت مفاهيم مثل المحاسبة والشفافية والعدالة الاجتماعية جزءاً من الخطاب اليومي للناشطين والمواطنين على حد سواء.
المستقبل أمام الحركات الاحتجاجية في العراق يحمل تحديات كبيرة، لكنه أيضًا مفتوح على فرص جديدة. من الناحية العملية، تواجه الحركات الشعبية ضغوطًا من السلطات السياسية والمليشيات المسلحة، فضلاً عن تأثير العوامل الإقليمية والدولية. إلا أن التغيير الجذري يتطلب عملاً مستمراً وتراكماً للخبرات التنظيمية والسياسية. ومع ذلك، فإن الحركات الاحتجاجية التي انبثقت من روح تشرين أظهرت قدرة متزايدة على التكيف والتنظيم، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو المنظمات المدنية.
آفاق المستقبل تتوقف على عدة عوامل رئيسية:
•استمرارية الوصع إذا استمرت القوى الشبابية والمدنية في تنظيم نفسها وبناء شبكات أكثر تأثيراً، فإنها قد تتمكن من فرض إصلاحات أعمق في المستقبل. فالتجربة التشرينية أثبتت أن الصوت الشعبي له وزن كبير في الساحة السياسية.
•إمكانية بناء قيادة موحدة: فشل تشرين في خلق قيادة موحدة كان واحداً من الأسباب التي أعاقت قدرتها على التفاوض بفعالية مع السلطات. إذا تمكنت الحركات الاحتجاجية المستقبلية من تجاوز هذا التحدي، فقد تكون لديها فرصة أكبر لإحداث التغيير المنشود.
•التحول الى قوة سياسة: على المدى البعيد، تحتاج الحركات الاحتجاجية إلى الانتقال من الشارع إلى الساحة السياسية عبر إنشاء أحزاب أو تحالفات سياسية تمثل مطالبها في البرلمان. هذا التحدي قد يكون حاسماً لتحقيق أهداف طويلة الأمد.
•التفاعل مع المجتمع الدولي: النجاح في الحصول على دعم دولي وإقليمي لتحركات الإصلاح قد يساعد في تخفيف الضغوط الداخلية وفتح آفاق جديدة للتغيير.
فإرث تشرين ليس مجرد حدث تاريخي، بل هو بداية مسار طويل ومعقد. ورغم التحديات الهائلة، فإن ما حققته تشرين من وعي سياسي واجتماعي جديد يعدّ بمثابة قاعدة قوية يُمكن البناء عليها في المستقبل، لتتحول العراق إلى دولة أكثر عدالة وكرامة.
للاستفادة من إرث انتفاضة تشرين في مواصلة الضغط من أجل الإصلاح، يجب التركيز على عدة محاور رئيسية:
•تعزيز التنظيم والتنسيق: يجب على الحركات الشبابية والمجتمعية بناء هياكل تنظيمية متينة تستطيع الحفاظ على التواصل وتنسيق الجهود. يمكن أن يشمل ذلك إنشاء تحالفات بين مختلف الفئات والقطاعات، مثل النساء والشباب، لتعزيز قوة الحراك.
•تطوير استراتيجيات الضغط: يجب التفكير في استراتيجيات جديدة للضغط على الحكومة لتحقيق الإصلاحات، مثل تنظيم فعاليات جماهيرية، حملات توعوية، ونشاطات على منصات التواصل الاجتماعي. استخدام الفن والثقافة كوسيلة للتعبير عن المطالب الشعبية يمكن أن يكون له تأثير كبير في جذب الانتباه المحلي والدولي.
•تعليم ورفع مستوى الوعي: الاستثمار في التعليم والتثقيف حول حقوق المواطن والمشاركة السياسية يساهم في تعزيز وعي المجتمع بأهمية محاسبة الحكومة والمشاركة في العملية السياسية. من خلال ورش العمل والمحاضرات، يمكن تعزيز قدرة المواطنين على المطالبة بحقوقهم بشكل أكثر فعالية.
•استثمار التكنلوجيا: ينبغي استخدام منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية لتنظيم الحملات وتحفيز الشباب على المشاركة. هذه الوسائل تمنح الفرصة لتوسيع نطاق الحراك وإيصال الرسالة إلى جمهور أوسع.
فيمكن القول إن هناك أمل بتجدد الحركات الاحتجاجية في العراق. فالتاريخ يظهر أن التحركات الشعبية غالبًا ما تتجدد في الأوقات التي تزداد فيها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. إذا استمر الفساد وسوء إدارة الموارد، ستظهر فرص جديدة للشعب للتعبير عن غضبه واستيائه. إضافة إلى ذلك، فإن الوعي الذي نشأ عن تشرين يشير إلى أن هناك رغبة عميقة لدى الشعب في التغيير، مما يعزز من فرص تجدد الحراك.
كذلك، يمكن أن تلعب العوامل الخارجية دورًا في تجديد الحركات الاحتجاجية. على سبيل المثال، إذا تمكنت المجتمعات الدولية من إظهار دعمها للمطالب الشعبية، فقد يحفز ذلك المزيد من الناس على الانخراط في الحراك.
التركيز على أن تشرين ليست مجرد ذكرى، بل دعوة مستمرة للتغيير
من الضروري أن نفهم أن انتفاضة تشرين ليست مجرد حدث تاريخي تُؤرخ له في الصفحات، بل هي دعوة مستمرة للتغيير. إن روح تشرين تعيش في نفوس العراقيين الذين يرفضون العودة إلى الوراء، ويؤمنون بأن الكرامة والعدالة ممكنتان. إن هذه الانتفاضة تُعد رمزًا للأمل، تجسد الإيمان بأن التغيير ممكن من خلال الجهود الجماعية.
يجب أن تكون ذكرى تشرين حافزًا للناس، ليعوا أنه لا يمكن الاستسلام أو فقدان الأمل في الإصلاح، بل يجب مواصلة الكفاح من أجل تحقيق المطالب. فكل صوت يرفع من أجل الحق، وكل خطوة تُتخذ نحو العدالة، هي جزء من هذا المسار المستمر نحو التغيير.
في النهاية، يأتي نداء تشرين ليس كدعوة للاحتجاج فحسب، بل كدعوة للتفكير والتخطيط والعمل المستمر من أجل غدٍ أفضل. إن كل جيل يتحمل مسؤولية إحياء هذه الروح، لضمان أن تبقى شعلة الأمل مشتعلة، وأن يبقى الحلم في عراق أفضل، حقيقةً ممكنة.
في ختام هذا التأمل في إرث انتفاضة تشرين، يتجلى لنا بوضوح أن هذه الحركة لم تكن مجرد حدث عابر، بل هي فصل جديد في تاريخ العراق، يفتح آفاقًا جديدة للمستقبل. ورغم التحديات والصعوبات التي واجهتها، فإن روح تشرين لا تزال حية، تنبض في قلوب العراقيين الذين يطمحون إلى التغيير.
لقد كانت تشرين بمثابة شرارة أطلقت وعيًا جديدًا بين المواطنين، حيث أصبحوا يدركون أهمية مشاركتهم الفعالة في صناعة القرار. ورغم أن الأهداف التي سعت إليها الحركة لم تتحقق بالكامل، إلا أن الأثر الذي تركته في النفوس لا يمكن إنكاره. أرى أن الوعي المتزايد لدى الشباب، والرغبة في الإصلاح، هي العوامل التي ستستمر في دفع الحركات الاحتجاجية نحو الأمام.
إن الدعوة للتغيير لم تنتهِ مع انتهاء الاحتجاجات. بل إن كل ذكرى لتشرين تعيد إلى الأذهان أهمية مواصلة النضال من أجل الكرامة والعدالة، وتجدد العزيمة لتحقيق الأهداف المنشودة. يجب على الجميع أن يتذكروا أن هذه المعركة ليست فقط من أجل تحقيق مطالب محددة، بل هي معركة لبناء هوية وطنية جديدة قائمة على المبادئ الإنسانية والحقوقية.
كما أن الأمل بتجدد الحركات الاحتجاجية قائم، إذا ما واصل العراقيون تنظيم أنفسهم وتنسيق جهودهم، مدعومين بالتكنولوجيا والتواصل الاجتماعي، ليصبحوا قوة لا يستهان بها في مواجهة الفساد والتهميش. إن أي جهد متواصل لتحقيق التغيير هو خطوة نحو عراق أفضل، حيث يتمكن الجميع من العيش بكرامة وحرية.
في النهاية، تبقى تشرين دعوة لكل فرد أن يكون جزءًا من هذا التغيير، وأن يساهم في بناء مستقبل يليق بالعراق وشعبه. فهي ليست مجرد ذكرى، بل هي إرادة حية تدفعنا جميعًا للاستمرار في الكفاح من أجل الغد الأفضل.