نعيم عبد مهلهل / كاتب راقي / فرانكفورت
يسكن الملوك على اختلاف أمزجتهم هاجسٌ خفيٌّ اسمه (ماذا يريد شعبي)؟
وهو ذاته الهاجس الذي تخيلته في أوراق الرحالة ماركو بولو الذي أجرى منادماتالكلام، والسفر مع خان الصين الأسطوري (قبلاي خان)، فأول عبارة قالها الخان إلىالرحالة الفلورنسي: لقد أتيت اليوم في مناسبة عزيزة عليَّ هو يوم توزيع الثياب علىالعراة، وربما قبلاي خان أسس هذا اليوم خشية أن لا يقع في مطبِّ حكاية صينية قديمةكانت موجودة في كتاب النصوص بإحدى مراحلنا الدراسية وعنوانها (ملابسالإمبراطورية) تتحدث عن جرأة طفل جاهر بأن الإمبراطور كان عارياً حين يجلس علىأريكته التي يرفعها العبيد في موكبه المهيب الذي يسير بين الجموع وهي تبدي مديحهاالكاذب والخادع لجمال وأناقة ملابس الإمبراطور. وفي الحقيقة إن الإمبراطورية كانأيضاً ضحية خديعة ما، ولم يكن عليه أي ثوب من الحرير المذهب، بل كان عارياً.
قصة الرحالة وملابس الإمبراطور تعيدُ إليَّ مديح تلك الالتفاتة الإنسانية التي أسسهاالملك في الحكم الوطني واستمرت حتى أواسط السبعينيات، ثم اختفت بسبب ما كانيعتقد أن أموال النفط رفعت من مستوى معيشة الفرد العراقي.
وهو ما كنا نطلق عليه (معونة الشتاء) عندما كانت الإدارة في المدارس الابتدائية تشكللجاناً من مرشدي الصفوف لتحصيَ أكثر التلامذة فقراً وتوزع عليهم مادة واحدة منمادتين إما حذاء يشبه البسطال وكنا نطلق عليه (اللابجين) وأعتقد أنها مفردة إنكليزيةأتت مع أحذية كرة القدم التي كان يرتديها لاعبو فريق كرة القدم الإنكليزي في قاعدةالحبانية الجوية، أو من تلك الأحذية الإنكليزية الثقيلة التي كان يرتديها الجنود فيثكنات الجيش والوحدات العسكرية. والمادة الثانية هي بدلة ثقيلة من الجوخ الأخضر أوالنيلي المعتم.
كان الطلاب الفقراء ينتظرونها بفارغ الصبر، وكان بعض المعلمين يمقتُ هذه المعونةويعتقد أنها تبقى تؤشر إلى الإنسان الفقير أينما كان متواجداً وهو يرتديها، مما يظهرلنا تمايزاً طبقياً في المجتمع. وكان رأيهم أن تُبدل بتوزيع أثمان البدلة خلسة علىالتلامذة الفقراء، ويشترون هم ما يرغبون شراءه من ملابس على قدر الثمن الموزع إليهم.
في الأهوار كانت هذه المعونة تأتي، ولأن فوارق الفقر تتضاءل بين أهل القرى بسبب أنهميقتربون في تماثل في الملكية، وكل ثرواتهم هو الجواميس وتتشابه بيوتهم في اشتراكيةرائعة هي بيوت قصب، فإن أهل القرية لا يتحمسون كثيراً لهذه المعونة، على الرغم منأننا كنا نرى ونشعر بمعاناة التلاميذ من البرد حين يأتون إلى المدرسة، ولا يرتدون سوىالدشاديش، ومن يحصل على هذه المعونة يكون مرغماً ليصبح أفندياً، وتتطلع إليهبابتسامة وربما بحسد عيون زملائه، لكنه يبقى يُؤشر عليه أنه الأفقر في هذه القرية.
والمفارقة في أناقة معونة الشتاء أن الذي يكون أفندياً فهو يأتي مرتدياً مع البدلة نعالاً أوصندلاً، ومرات يجيئون حفاة، والذي يكون حصته الحذاء يأتي مرتدياً حذاءه معالدشداشة، وبالرغم من هذا أشعر بالثناء إلى تلك اللحظات السريالية التي يشع فيهاضوء السعادة في عيون التلاميذ عندما كانوا يقفون بانتظام وهدوء من أجل تسلُّم معونةالشتاء….!