من هو رائد الفن التجريدي؟

من هو رائد الفن التجريدي؟

من هو رائد الفن التجريدي؟

* بين الفن الإسلامي وكندانسكي وكوبكا وكلنت !

عزالدين بوركة – شاعر وباحث مغربي

يجد الفن التجريدي جذوره في الفن الإسلامي معمارا ونقشا وتصفيحا وترويقا، كما يذهب مجموعة من الباحثين والمؤرخين… فهذا الفن [التجريدي] المتسم بالبعد الروحاني قد تم تقعيده باعتباره تيارا مستقلا وثوريا منذ العقد الأول من القرن الماضي، مع أولائك الفنانين الذين راحوا يبحثون عن تجربة تجعل من اللامرئي مرئيا، وهنا تقع نقطة الالتقاء مع الفن الإسلامي الذي سعى إلى الإعلاء من الخفي وغير الظاهر والروحاني.. إذ لم يتأتّ للأوروبيين الاحتكاك بهذا “التصور الجمالي” إلاّ عبر تلك البعثات الاستشراقية التي قاموا بها إلى العالم الإسلامي (المغرب وتونس والجزائر ومصر…الخ)، ولالتقائهم بالحضارة الأندلسية، هكذا بدأت أوروبا تكتشف تدريجيًا هذا فن “العريق”. غير أن سؤال التقعيد والتنظير له، أي ما يسميه نيتشه بملكية التسمية أو “استراتيجية التسمية”؛ ظل عالقا بالنسبة للمؤرخين والباحثين وحتى النقاد.. ويحضر هنا سؤال ملح وجوهري، هل يُعقل أن يكون شخص واحد قادر على الانعطاف بالفن واستحداث تيار فني لوحده؟ يجيب البعض بـ”نعم”، إلا أنهم يختلفون في من هو الشخص الرائد؛ بين فرانتيشك كوبكا Kupka وفاسيلي كاندينسكي Kandinsky يتصارع المؤرخون، بين عامي 1910 و1913. أما بالنسبة للبعض الآخر، فليس هناك شك في أنه في عام 1905 وُلِدَ التجريد، تحت فرشاة السويدية هيلما أف كلينت Hilma af Klint، التي أبقت عملها سرا طوال حياتها. لكن هل الميلاد يبدأ مع الإظهار أم الإضمار، الإعلان أم الستر؟

بعيدا عن الإجابة عن هذا السؤال الشائك، فقد شكّل الفن التجريدي محطة فارقة في تاريخ الفن عموما، وبالخصوص بعدما تم التنظير له باعتباره قفزة نوعية وانعطاف حاد نحو تجسيد دواخل الإنسان دونما الحاجة للتشخيص.. بالاستعانة بالألوان والأشكال والخطوط، في هندسة مبهرة تعيد تشكيل المرئي وإبراز اللامرئي. وإن لم يكن الحافز الفني في الأصل له أيّة علاقة بمحاكاة الطبيعة، فالفنان يبحث عن التجريد بصفته الوسيلة الوحيدة للراحة وسط اِلتباس صور العالم وغموضها. الطبيعة ليست شرطًا ضروريًا للعمل الفني، وإن كانت تاريخياً تشكّل عنصرًا أساسيًا فيه… إن الإرادة الفنية لدى الشعوب الأولى… والإرادة الفنية في جميع المراحل التاريخية البدائية، كذلك الإرادة الفنية لدى بعض الشعوب الشرقية ذات الثقافة المتطورة، إنما تظهر عن ميل نحو التجريد. هكذا، فإن الحافز التجريد يكمن في بداية كل فن، كما يبقى الظاهرة البارزة لدى بعض الشعوب ذات المستوى الحضاري المتطور، بينما يتراجع تدريجيًا مع اليونانيين وشعوب غربية أخرى.

إذن فهذا الفن متجذرٌ في الإنسان الباحث عبر الفن عن التعبير عن دواخله وتصوره للعالم.. ولكن هل كان هناك بالفعل أول شخص أبدع هذا الفن؟ لنعد إلى العلامات والإشارات والآثار الأولى التي تم تخليدها على جدران كهوف ما قبل التاريخ، إنها لم تمثل أي شيء مشخص بالشكل الذي تحمله الكلمة من معنى: علامات وإيماءات هلامية وكُتل صباغية أو خطوط أشكال فارغة من الداخل.. ثم إن هذا التجريد، كما ظهر في بداية القرن العشرين، كان في الواقع نتيجة حركة جماعية: كاندانسكي أو كوبكا (1910)، ماليفيتش (1913) موندريان (1914)، والمرجح قبلهم كلينت (1905)…الخ؛ كانت حركة متجذرة في عصر فريد، وقد بزغت من قبل الفلسفة وعلوم الغيبيات وتيارات التصوف التي اجتاحت أوروبا الشرقية، متأثرة بالتاريخ الإسلامي الذي ظلت آثاره قائمة في مجالات عديدة، بما فيها البعد التصوفي والغيبي والروحاني. بل إن “التجريدية” في مفهومها الإسلامي، لا تخرج عن كونها اجتهاد للتعبير عن دواخل الإنسان المسلم، ولا تتعدى كونها ضرب من ضروب البحث عن هذا الإنسان المسلم، من حيث كونه “النقطة” المنطلقة لموضوع الحياة. وهو الأمر الذي سنجده عند بول كلي -نموذجا- الذي سيؤكد قائلا بأن “الخط نقطة تتنزه”، وفي تقارب مع قولة الحلاج، “أدق من ذلك ذكرُ النقط وهو الأصل؛ لا يزيد ولا ينقص ولا يبيد”..

يحتدم الخصام بين مؤرخي الفن الباحثين عن نقط الانعطاف والقطائع، والمنقبين عن المصدر، حول من هو رائد الفن التجريدي! وهو سؤال مشروع، وإن نرى بأن هذا الفن قد أخذ روحه التي يحيا بها مما خبره الفنان المسلم والعربي، وما أنتجته مخيلته وما أبدعته أنامله بحثا عن تجريد جل ما أنتجه من أشكال التشخيص، ليس من باب التحريم بالشكل المطلق، لكن غاية منه لإبراز اللامرئي المتعالي والمتسامي الذي يؤمن به باعتباره محركا للعالم. إذ كان للإيمان التوحيدي، أثر كبير على إبداعية الفنان العربي القديم، جعله يتخذ من “التصحيف” الواقع، أي تحوير معالم الواقع الخاصة وتعديل نسبه وأبعاده وفق مشيئة الفنان عينه. وأيضا فن “التغفيل” الواقع، أو ما يمكن شرحه بالابتعاد عن تشبيه الشيء بذاته، إلى تمثيل الكلي والمطلق. وإن نذهب مذهب مؤرخين تشكيليين الذين لم يفصلوا التصوير الإسلامي عن المشخص والتشخيص، فليس هذا الفن مجردا وتجريديا فحسب، وإن كانت السمة الطاغية عليه هي التجريد، ففي مراحل متعددة كان للتشخيص كلمته العليا ودوره الفعال في تمرير رؤية الدولة الحاكمة (كما حدث في عهد الدولة التيمورية (القرن 14م.)… بل إن طوائف ومذاهب إسلامية لم تحرم قط التصوير الآدمي والحيواني، بينما آثرت أخرى عدم رسم الظل وتحريم ذلك بالنص الصريح، رابطة بينه وبين الحياة/الروح (وهذا موضوع مقال آخر).

عود على بدء، ليس بين كاندانسكي وكوبكا وكلينت فارق زمني كبير، وقد تزامنت تجاربهم مع تسارع وتيرة البحث عن التجديد في فترة الحداثة الفنية التي غزت أوروبا بعد بزوغ “شمس” الانطباعية وما تلاها من تيارات متعددة، اتكأت على فردانية واستقلالية الفنان الذي بدأ يعبّر انطلاقا من دواخله، وهو ما سيتخذ مداه مع التوجه الروحاني الذي آمن به كل من “رواد” الفن التجريدي. إذ تلتقي أعمال هؤلاء الثلاثة بالخصوص، في كونها تعتمد على نوع من التصوف من حيث السعي، ويختلفون في طرق الاشتغال. إذ سعى كوبكا إلى الاتحاد والطبيعة التي كان يحاول التناغم معها، وقد كان نباتيا في أكله، حيث آمن بأن العالم تحكمه مبادئ أعلى، نظام كوني مقيم في الطبيعة. بينما ارتبط رحلة كلينت الانفرادية والمنعزلة وغير النمطية ارتباطًا وثيقًا برحلة روحية وباطنية. وغموضها هذا جعل فقط مجموعة صغيرة من المبتدئين تعرف لوحاتها “الغامضة” حتى الآن، وقد كانت مقتنعة بأن عامة الناس لم يكونوا مستعدين لفهمها. في الوقت الذي سعى فيه كاندانسكي إلى التعبير عن روحانيته عبر أعمال استخدم فيها بشكل أساسي أشكالًا هندسية مثل الدائرة والمربع والمثلث والمستطيل والخطوط والمنحنيات.

(Visited 27 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *