نعيم عبد مهلهل
ذات يوم أقنعت إدارة المدرسة بمنح مخيلة تلاميذ مدرستنا جغرافية أخرى غير محيط هذهالقرية التي لا يتعدوها بأكثر من ميل، وذلك بأخذهم سفرة مدرسية إلى مدينة أور الأثرية،وجولة ساعة في سوق المدينة، وكنت وقتها خاضعاً لهيمنة أطياف هذه المدينة متلبساً ماأظنه الغموض الذي سَكنتْ إليه المدينة يوم صنعت مجد راياتها وقيثاراتها، ثم جاءهاالحزن والنسيان يوم أحرقتها خيول الغرباء، وكنت كلما شربت بآنية القير (الغضارة) التي يجلب بها شغاتي الحليب أشعر بصدى تلك الأزمنة ويملأ رأسي صدى طرق معاولومجارف المنقبين، فأهرب لتخيل الشيء مرئياً حين أعيد قراءة كتاب مذكرات ماكس مالوانالذي عمل مساعداً لرئيس البعثة ليوناردو ولي، ومالوان هو آخر أزواج الروائية الشهيرةآجاثا كريستي التي صحبته في اشتغاله بالبعثات الأثرية في النمرود لكنها لم تجئ معهإلى أور على الرغم من أنها كانت تتمنى ذلك، وكنت من بعض رؤى تخيلي مالوان وهويذهب والكاهن المكلف بقراءة الكتابة المسمارية والبحث عن إشارة تؤكد ما ذهبت إليهالتوراة حول ولادة إبراهيم (ع).
يذهبان إلى مدينة الناصرية للنزهة في شوارعها العريضة والمستقيمة، ولشراء مايحتاجونه من الشاي وشفرات الحلاقة وبعض المستلزمات، أتخيّل أمنيته وهو يدفعبكرسي آجاثا في أيامها الأخيرة يوم أصبح مديراً للمتحف البريطاني عندما كان يتمنىأن يتنزه معها في ذات الشوارع الهادئة في المدينة الجنوبية التي لا تبعد عن أور سوى 15 كم.
ولهذا فإن خاطرته الأخيرة التي كتبها على شكل مرثية هي ما بقيت تزاور خاطري فيمشهد متخيل لمالوان يدفع بكرسي متحرك واحدة من أشهر كتاب الرواية البوليسية فيهذا العالم في سوق المدينة المسقف (القيصرية) وقرب سورها الطيني وبوابة باب الشطرة،وعلى ضفاف الفرات في نهار تصدح فيه المقاهي بالأغنيات الأولى التي لحّنها الملحناليهودي صالح الكويتي للمطربة سلمية مراد باشا وهي يهودية أيضاً:
«توفيت عزيزتي آجاثا بسلام وهدوء بينما كنت أدفع كرسيها ذا العجلات إلى حجرةالجلوس بعد تناول الغداء. كان أعظم سلوان لي إدراكي الذي تكوّن من مئات الرسائل، إنالإعجاب امتزج بقدر متساو من بالحب، الحب والسعادة اللذين كانت آجاثا تشعهما فيشخصها وفي كتبها. أبتهل إلى الخالق أن يتغمدها برحمته».
شعر التلاميذ بسعادة غامرة وهم يغادرون الزوارق إلى كراج المدينة ويركبون لأول مرة فيحياتهم سيارات (الفولفو) الخشبية ويجلسون في مرح وابتسامات بريئة، وقد حمل كلواحد منهم أمتعته البسيطة من خبز الطابك ورؤوس البصل، فيما حرص شغاتي أن يجلبآنية من القيمر يوزعها على الجميع عند الوصول، ولم يدع الأطفال يتناولونها فيفطورهم، فعلى حد قوله: هذا يجعل أرواح الصغار تلعب ويتقيؤون.
أبهر الأثر الصامت عيون بعض الأطفال، والبعض شكّل لديهم خيبة، وكنت طوال الطريقأجلس قرب السائق أقرأ في كتاب مالوان، وقد حشر التلميذ الذكي (فرهود) نفسه بقربي،ولهذا كان أول التلاميذ الذي أعلن ضجره من الرحلة التي صعدوا فيها الزقورة الشاهقة فيظن منهم أنهم سيروْن قريتهم، لكنهم قالوا: إنهم لم يشاهدوا سوى البراري الفارغة، وآخرقال: لقد جئنا إلى الحفر وما تتركه الواوية عندما تفرغ بطونها.
وحده فرهود اقترب مني وقال: أستاذ كان كل أملي أن أشاهد هذا الأفندي الذي صورته علىغلاف الكتاب الذي تقرؤه.
قلت: نحن ذاهبون في نزهة إلى الناصرية، وربما نجده يتنزه هناك، يدفع زوجتَه الرائعةبكرسي متحرك وهي من كتبت رواية (جريمة في قطار الشرق السريع).