في ذكرى وداع راهب المسرح قاسم محمد / ظافر جلود

في ذكرى وداع راهب المسرح قاسم محمد / ظافر جلود

دبي : المستقل

ظافر جلود

غادرنا جسدا لكن روحه طافت بالعراق الحبيب الذي تركه بعيدا ومر الفراق يملا جسده المنهك التعبان من هذا المرض اللعين، أبا زيدون لم نذرف الدموع حزنا، لأنك تركت فينا سجلا خالدا من الأعمال التي ستبقى علامة مضيئة في تاريخ المسرح العراقي، لكننا ذرفنا الدمع وأنت البعيد عن الديار تتلمس بيديك التي صنعت مجدا لأجيال مختلفة ذلك الوطن المتعب، في آخر لحظة وداع كنت أراه وصديقي الفانيين مناضل داود وقاسم زيدان حينما كنا في داره بالشارقة بعيون تلميذ صغير بمعهد الفنون الجميلة وهو في خيالي شجرة باسقة مخضرة كثيرة العطاء، لم أفكر لحظتها مطلقا أن هذا المفكر والأستاذ والفيلسوف المسرحي سيغادرنا بعد أيام، عزيمة على قهر المرض بأمل مشرق حتى بلغت به الآمال بان يشارك ممثلا في إحدى أعمال المسرح مع مناضل، لكن الأقدار خطفت أبو زيدون انه فقيد العراق الفنان العراقي الكبير المخرج والمعلم والباحث والشاعر قاسم محمد والجوهرة الثمينة التي كلما وضعت على محك لاختبار ازدادت ألقا ً ولمعانا ً، فالتجربة لديه عبارة عن ثمة تواصل مستمر في حالة الحلم ومن البديهي أن الفنان يعد الحلم لديه حجر الزاوية في استنفار حدسه وملكته الإبداعية إلا أن الكثير أخضع مجساته الجمالية لمعايير أخرى غير حالة الحلم لاسيما في هذا الفضاء الواسع المزدحم بأحداثه الجسام، غير أن قاسم محمد يحاول أن يحقق الحلم من خلال المسرح أينما يكون وحيث يعمل.

الراحل قاسم محمد قامة من قامات المسرح العربي ومن المدافعين عن تأصيله وقام بالإضافة إلى إخراج وكتابة المسرحيات بالتدريس في المعاهد والأكاديميات في العراق وأقام العديد من الورش المسرحية في العديد من الدول العربية والأجنبية وهو على تيار الجيل الثاني من المخرجين في الحركة المسرحية العراقية، تخرج من معهد الفن بموسكو في العام 1968 ومنذ ذلك الوقت لعب دورا نشيطا في الحركة المسرحية العراقية. كما انه يمثل الجيل الثاني من المسرحيين والمخرجين الذين شهدتهم المسارح العراقية بعد ثورة تموز 1958 وقد بدأ أثناء دراسته هناك كتابة مسرحية أسماها (الملحمة الشعبية) وأتمّها، كما يقول، 1978 في بغداد. وعلى رغم عدم رفضه للتغييرات الإيجابية في المسرح الأوروبي، فما كان قاسم محمد يريد تحقيقه وراء كتابة هذه المسرحية هو أن تكون عراقية صميمة، لكي تبقى تجربة قاسم محمد المسرحية تحمل لخصوصيتها الفكرية والجمالية بوصفها إحدى اللبنات التي ساهمت في تميز التجربة المسرحية العراقية. كما قدم العديد من البحوث والنصوص المسرحية التي تأخذ شكل التجريب المسرحي وكلها كانت تدفع إلى الذهاب إلى رحاب اللغة العربية والموروث الشعبي. انتقى شخصياته من الأسواق الشعبية ومن الحارات ومن بلاطات السلاطين. كما اشتهر بطريقه تدريب الممثل وقد كان له الأثر الكبير في بروز العديد من الطاقات المسرحية العربية والتي تربت على يديه، سواء في معهد الفنون الجميلة أو بالفرقة القومية للتمثيل أو مسرح فرقة المسرح الفني الحديث أو مع مسرح الشارقة الوطني.

كما أن تجريه قاسم محمد في العراق لا يمكن أن تنفصل عن محاولات أخرى جرت أيضا في المغرب على يد (الطيب الصديقي) و(عز الدين المدني) في تونس، لاستغلال مقامات الحريري وتقديمها في عرض مسرحي ناجح. كذلك استغلالهم (لمسرح الحلقة والمسرح الاحتفالي، وهكذا فان المخرج العبقري قاسم محمد قرأ كل هذه المسارح ورأى بعضها وتأثّر بها، على رغم أنه لم يحدد نفسه بشكل مسرحي معين، وإنما حاول أن يمد بصره إلى تراث بلاده وفولكلورها الشعبي من أجل توظيفه في مسرحه الشعبي هذا.

لذلك لعب منذ عودته من دراسته في معهد الفن في موسكو دورا نشيطا في الحركة المسرحية العراقية خلال سنوات السبعينات والثمانينات، على نحو خاص. بل وأحدث انقلابا في مفهوم المسرح الاجتماعي النقدي بعد أن قدم مسرحيته الشهيرة (النخلة والجيران) التي أعدها عن رواية غائب طعمه فرمان بالاسم نفسه، ومسرحية (بغداد الأزل بين الجد والهزل) المعدة عن تراث الجاحظ، و(مجالس التراث) التي تدور حول حياة أبي حيان التوحيدي وكتبه، و(كان يا ما كان) المعدة عن بعض الحكايات الفولكلورية العراقية و(ولاية وبعير) المعدة عن مسرحية سعد الله ونوس (الفيل يا ملك الزمان) وغيرها، تندرج في هذا الإطار الذي يحاول التأكيد على هذا الجانب. والتي كانت إيذانا ببداية مشرقة للمسرح العربي عموما والعراقي خصوصا. لأنه يعتقد أن كثيرا من التراث والفولكلور الشعبي العراقي والعربي يحوي مظاهر مسرحية وجذورا درامية يمكن استغلالها والإفادة منها. وهي، كما يقول، لا تحتاج إلا إلى قليل من الخبرة المسرحية كي تصبح عروضا مسرحية ممتعة ومعبّرة وقادرة على أن تمنح وجها وطنيا نقيا للمسرح العراقي والعربي.

وللفنان قاسم محمد الذي أغنى مسيرة المسرح العربي في مسرحيات خالدة ً مثل (آباء للبيع) حمل خصوصيته في ظرف استثنائي كان يعيشه الواقع العراقي إبان فترة الحصار الاقتصادي الذي عاشه في حقبة التسعينيات، وفي هذا العرض حاول أن يقدم طراز عرض مسرحيا استطاع من خلاله مزاوجة ذكية بين العنصر التعبيري باستخدام لغة المجاز المسرحي وبين نكهة ملحمية تحمل الطابع بريخت (كسر الإيهام) وبالتالي خرج بعرض يحمل مضمونه الخاص ليتناغم مع جملة الأسئلة التي كان يطرحها الشارع العراقي آنذاك وتلك مهمة الفنان أو الأديب، ومن المعروف عن (أبو زيدون) أنه دائم البحث والتنقيب في كل ما له علاقة بالعملية المسرحية لأنه من المؤمنين بضرورة خلق مناخات جديدة في العملية الإبداعية لغرض التحرر من القوالب والتابوهات الجاهزة التي قد تحد من حرية الإبداع لذلك فهو يركز جل انشغالاته على ما يسمى الدراما توركية (المفسر ( كعنصر جوهري لارتباطها ببناء الممثل الإبتكاري الإبداعي، فهو يرى أن هذا النمط من الممثلين يجب أن تنمو داخلهم مفردة الإنسان قبل أن يتكامل إبداعيا ً ومهاريا ً فضلا ً عن أن فناننا الكبير يشتغل على مفردة الإخراج والمخرج هنا بالنسبة لمنظوره الحركي الذي يخرج عن إطاره التقليدي كونه يحدد وظائف إلى مهندس أفكار.

 

(Visited 11 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *