لمش ١١٤ – الجزء العشرون

 

بعد يومٍ كاملٍ من الاستعدادات والمماحكات بين أعضاء فصيل الطبابة، تحرّكت وحدات اللواء فجراً باتجاه جبهة الفاو. تم استبدال لوائنا بوحدة متحركة من الفيلق الأول.

كان فجر السليمانية ملبّداً بضوء شمسٍ خافتة، لا يشبه ذلك الصباح الذي وطأت فيه أقدامهم هذه الأرض بعد سقوط حلبچة، حينها كانت السماء تشتعل بقذائف المدفعية الثقيلة، وكأن النيران لن تنطفئ أبداً.

هدير محركات سيارات اللواء المتهالكة انتهك سكون المدينة، التي كانت تغطّ في سباتٍ ثقيل، وكأنها تحبس أنفاسها قبل يومٍ جديدٍ من المجهول.

في مقدمة سيارة الإسعاف، جلس كريم وباسم، بينما انتهى الأمر بسمير خبالو ممدداً على الأغطية والصناديق في الحوض الخلفي، محشوراً مع سلام وعلي وبهاء. كانت عقوبةً شديدة أن يكون سمير رفيقهم في هذه الرحلة، إذ لن يغمض لهم جفن، ولن يهدأ لهم بال.
كان صوته مقاومةً شخصية ضد الصمت، وكأنه يرفض أن يترك أفكارهم تغوص في ظلمة الرحلة. بدأ بسرد قصة شقيقته الشهيدة إيڤون، ثم انتقل بحماسه المعتاد إلى تحليل شخصية النقيب كريم، آمر سرية المقر، الذي كان يعمل مراسله الشخصي.

كان سمير مقتنعاً أن النقيب يمكن أن يكون مدرس جغرافيا رائعاً أو حتى مذيعاً تلفزيونياً ناجحاً، لكنه لم يكن يراه رجلاً للحرب.
استرسل في حديثه بثقةٍ مبالغ بها، بينما كانت المركبة تهتزّ عبر القرى والوديان الخضراء.

“أنا أفهم بالحرب أكثر منه. صح أنا مجرد مراسل، لكن عندي عقلية ضابط ركن. لو كنت دخلت الكلية العسكرية بدل ما ضيّعت فرصتي، كان اليوم أني آمر لواء اذا مو قائد فرقة!

سلام، الذي كان يعاني من صداعٍ حاد بسبب حرمانه من الشاي ونفاد سجائره وصبره، ردّ عليه ساخطاً:

“سمير، أنت المفروض تصير قائد فيلق! عندك مزيج نادر من الحزم والذكاء اللامع!”
⁃ شكرا اخ سلام لتقديرك
⁃ مو بس هذا سمير انت بسبب قوة شخصيتك كان لازم تصير ممثل بالسينما.
رد سمير مصدقا كل كلمة قالها بسلام مزهوا وفخورا انه قدم مع فصيل الطبابة في هذه الحركة:

“أنت فاهمني عدل، بس لا، الشهرة ما تهمني.”

ثم عاد إلى الحديث عن إيڤون، وأخرج صورتها الجميلة من محفظته، وحدّق بها طويلاً قبل أن تترقرق الدموع في عينيه. كان يشعر أنه ترك وحيداً في هذه الحياة التي بلا معنى.
ماذا سيفعل بعد انتهاء الحرب؟ سيكون وحيداً أكثر. على الأقل الآن، لديه أصدقاء قريبون من قلبه مثل سلام، وعريان، والنائب ضابط محمد محسن، وطبابة اللواء، لكن حين تنتهي الحرب؟ سيكلم الجدران، وربما يقضي وقته كله في الكنيسة، يناجي الرب ويسأله عن حكمته في أخذ روح إيڤون إلى السماء.

توقفوا في استراحة چمچمال، واستردّ سلام عافيته حين شرب كوباً من الشاي الأسود الثقيل، مطبوخاً على الفحم، انتشرت رائحته الزكية في المكان كأنها تعيد ترتيب فوضى أفكاره. باسم، الذي كان يشعر بجوعٍ قاتل، ألقى بنفسه على صحن كباب مع الطرشي واللبن، حتى شعر بدوار النوم، لكنه تذكر أن في الخلف يقبع سمير، الإذاعة البشرية التي لا تتوقف عن البثّ، فعدل عن الفكرة.

أما محمد محسن، فكان مشغولاً، يتقلب بين الأفكار، يريد أن يرى أهله في الرفاعي قبل الوصول إلى الفاو. فكر أن يطلب إجازة من آمر سرية المقر، لكنه تردد.

“أنا محمد محسن، اللي شاف وعاف، أروح أتوسّل بضابط شاب؟!”

أما علي، فقال لهم بلهجة صارمة لا تحتمل النقاش:
“سأمرّ على بعقوبة، سأرى فاطمة، ثم ألتحق بكم بعد يوم.”

بهاء ظل صامتاً، يحمد الله أن سمير كان منشغلاً بإزعاج سلام وعلي، فتركوه في حاله. لم يكن يريد شيئاً سوى أن يغرق في كآبته وحده، بلا مقاطعة.

كانت أصوات المدفعية المستمرة التي تأتي من بعيد تعيد تذكيرهم أنهم ما زالوا تحت رحمة هذه الحرب، وأن ضحكاتهم المتقطعة وسعاداتهم الهامشية لا معنى لها.

غسل باسم يديه بعد أن انتهى من نفر الكباب، وشارك سلام طقس الشاي، وتركوا سمير يمطر بهاء بقصص لا تنتهي.

أما خليل، فحين استجمع قواه العقلية بعد سكرة الأمس، قرر أن يذهب إلى دائرة بريد باب المعظم، ليخبر شقيق ابتسام – الذي حرمه من حب حياته وألقى به في جحيم الحزن – أنه ارتكب إثماً كبيراً لن يُغتفر.
يتبع


مشاركة المقال :


3 thoughts on “لمش ١١٤ – الجزء العشرون

  1. Virtually all of the things you mention happens to be supprisingly accurate and it makes me wonder the reason why I had not looked at this in this light previously. Your article truly did switch the light on for me personally as far as this specific subject goes. Nevertheless there is one point I am not too comfy with and while I make an effort to reconcile that with the actual main theme of the point, let me observe just what the rest of the subscribers have to say.Well done.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *