د. طالب محمد كريم
d.talibkareem@yahoo.com
ما دفعني إلى كتابة هذا المقال وتوثيق جملة من المشكلات التي نعيشها يوميا في كل اتجاهات الحياة هي الركائز الثابتة في السلوك الاجتماعي ( غير القابلة للتحديث ). اذ جاءت هذه التشخيصات مع اشتراطات ( الحلول ) أي الانتقال الواعي للمجتمع الى عصرنة حياتنا وعقلنة مفاهيمنا المتوارثة. هي عدة محاولات دونتها بعد سلسلة من المقالات التي حاولت فيها ان أسلط الضوء على أسّ المشكلة العراقية . حيث وجدت ان تضخم المشكلة في أي مجتمع ما يبدا من نقطة ارتكاز، وربما تعتبر هي لحظة الشروع في تقييم المسار الضائع من الزمن الذي نفقده بكرم كبير. هذه النقطة يمكن ان تُحددّ من زاوية موضوعة الفهم المشترك الذي يرسم لنا كعراقيين ومواطنين الاتجاه السليم نحو تقليل الآلام والمعاناة وتوصل بنا إلى ضفة السعادة الاجتماعية. انها مجموعة كبيرة من القوالب الفكرية التي عَمَلَتْ على تحديد نمطية بائسة من المفاهيم والمدلولات التي يُعتقد انها حتميات لتاريخ الفكر الذي يتأسس عليها تاريخ بناء المجتمع ومستقبله.
يشترط في اي موضوعة تجريبية او فكرية ان يكون لها مصداق سليم( معاني مجسدّة ) في الخارج، حتى نُدرك النتائج الخاطئة سواء كانت في مقدمات الفكرة أو في التطبيقات العملية.
الكلام هنا يطول لان القضايا بحاجة إلى تفكيك المفردات والمعاني التي تتحكم بطريقة وأسلوب تفكيرنا ويمكن عرض الكثير من الأمثلة التي تعزز الاشكالية لدينا، لكن ذلك يعني أننا سنكون امام دراسة مفصلة أو بحث معمق وليس من خلال كتابة مقال. لذلك أرتأيت ان أرشق المقال وأزوده بمجموعة من الإشارات والرسائل الواضحة التي تغنينا عن السرد الذي يولد حالة التململ للبعض.
نتكلم كثيرا عن الوعي الإنساني العراقي في محاولة معالجة نمطيات التفكير والإدراك وتشخيص الأسباب التي أنتجت كل هذه المشاكل، وطرح البدائل من خارج صندوق التفكير الذي أعتدنا عليها دائما حيث يمكن توصيفها بالعلاجات الناجعة .
هذا يعني ان الحديث عن مشكلة العقل العراقي هو مواجهة الأسئلة المشاكسة الفاعلة التي تحاول ان تفكك السؤال في سبيل معرفة جنسية وهوية العقل، ويعني ذلك اننا بتنا أمام معرفة تعددية العقل وجنسيته، التي تتميز بها فيما بينها، بل امام ضابطة الجغرافية والبيئة التي تتحكم في تحديد مناهج التفكير العراقي الذي يتميز بها عن الآخرين ؟
الجواب عن الإشكاليات يأخذ بنا إلى أعمق من ذلك، إلى معرفة القواعد الفكرية التي يعتمدها العقل العراقي وهذا يتكون من خلال المناخ الثقافي المتوارث للمجتمع. التي أسست بها قواعد فكرية ثابتة دخلت في حيز المقولات الجاهزة والتي لا تسمح لمنهج التفكيك ان تضعها على مشرح والآت الجراحة في محاولة اكتشاف منطق الحياة وتنظيم المجتمع وأحترام الأشياء.
لطالما عمل الفلاسفة على محاكمة العقل وتفكيك قوالب التفكير وتقييم المقولات التي اعتمدها العقل الإنساني لفترات طويلة، ومن بين هؤلاء رينه ديكارت الذي وضع منهجاً لفك الاشتباك بين الحقيقة والخيال،
اذ اشتهر بمقولته التي تبحث عن نقاء العقل من خلال منهج التفكير ، واضعاً المبدأ الشهير القائل: لا يجوز للإنسان أن يصدّق سوى الأشياء التي يقرّها العقل وتؤكدها التجربة، ذلك المبدأ الذي سحق الخرافة وغيّر الوجه الخلقي لكوكبنا.
ومن بعده الفيلسوف عمانويل كانط الذي حاول ان يفصل بين طرق التفكير من خلال وظائف العقل.
اذ حاول ان يبيَّن الحدود التي يمكن للعقل أن يذهب إليها أو لا يذهب. وقال ما معناه: ينبغي العلم بأن العقل البشري ليس قادراً على كل شيء على عكس ما نتوهم. ولكنه قادر على أشياء كثيرة.
كذلك المفكر العربي محمد عابد الجابري الذي غاصَ في تفكيك العقل العربي من خلال تكوين العقل العربي.
حيث عمل على تفكيك العقل برمته ماسكا بيده مشرطا جراحيا ليكشف عن سر الحركة الجوهرية للعقل العربي . اذ ذهب إلى ان الخطاب العربي المعاصر هو خطاب محكوم بسلف، والمطلوب تحريره من ربقة السلف. بعبارة تركي الربيعو كما جاء في كتابه المحاكمة والإرهاب.
إذن المشكلة ليست بجديدة أو طارئة ولا يمكن حصرها البتة في حقبة معينة او مكان معلوم. لكن الميزة الفاصلة في الشعوب التي باتت تميل نحو التغير والتقدم وزيادة السعادة من خلال ايجاد حياة افضل.
المشكلة العراقية المعاصرة تختلف كثيرا عن كل المشكلات التاريخية التي مرّت بها البشرية ولها أسبابها الاجتماعية والاقتصادية ونوعية التعليم ودرجة الأمن والاستقرار.
لذلك ليس صحيحا عمل مقارنة، لفقدان الكثير من الأدوات التي تعد معايير في فهم تقدم العقل الذي يعني تقدم الشعوب .
لا أميز في مقالي هذا بين الطبقة المتعلمة أو التي تمتلك تعليماً أقل، ولا بين الشهادات العليا أو الدنيا، ولا بين الوظائف المتقدمة أو الثانوية، ولا بين الذين لديهم باع طويل في تاريخ وحاضرة أوروبا وبين الشرق الأدنى.
هذا يعني لا عصمة للعقل، ان لم يتحرر من جدران السجون أو محاولة التكبيل على طريقة فرانسيس بيكون، او زيادة مساحة الحرية من خلال الوعي بطريقة هيجل.
لا يعني الاختصاص ضبط إيقاع حركة الفكر، ولا تعني الشهادة سيادة الحقيقة . المسالة أكبر وأعمق من ذلك، لا يسمح لي المقام للبقاء عند هذه الإشكالية التي زلزلت قاعدة البناء الفكري الاجتماعي، لذا اذهب إلى عرض بعض الأمثلة التي احاول ان اجعل منها مقدمة أولية لتهيئة العقل على استيعاب المفاهيم التي تختفي بين السلوكيات التطبيقية لتتحول إلى معلومات مألوفة تأخذ شرعيتها من خلال الصمت الاجتماعي عنها:
١- مريض يدخل إلى عيادة طبيب فيلاحظ على باب الصالة اثار وبقايا من( طين الحنّاء ) في محاولة إعطاء رسالة للعامة بان الطبيب إنسان مبارك، وما الحنّاء الا دليل على البركات الغيبية. او تجد قطعة ادبية أو شعرية مكتوب عليها قصيدة تُعبِّر عن امتنان المرضى لهذا البطل الذي اكتشف أمراض مراجعيه وانهاء مرحلة المرض .
وهنا المشكلة الكبرى التي تضرب مناهج العلوم الطبية التي تعتمد المختبرات من الملاحظة والمشاهدة والرصد وتكرار التجارب وغيرها. مثل هذه السلوكيات التي أصبحت مألوفة في مجتمعنا قد كُرِّست لمفاهيم خاطئة ليس عند الكبار فحسب وإنما عند الصغار الذي نرى فيهم جيل المستقبل.
٢- الأسئلة الأولى التي تبدأ مع بدايات الوعي الإنساني وتحولات التفكير عن الأطفال، اذ يتعامل معها الآباء بطريقة خاطئة وإعطاء أجوبة شكلية تربك من عملية التفكير حتى تحتفظ بها الذاكرة ويعتمدها العقل في انتاج مفاهيم أخرى. أي نمذجة قوالب الفكر والخزعبلات.
٣- السلطة المعرفية في العراق تحاول ان تتسلط على عقل المتلقي، وأنا هنا استخدم المعرفة بالتعبير المجازي اذ هناك الكثير من الافكار لاتمت الى المعرفة الممنهجة بشيء. وما ينتج من ذلك تقييد طريقة التفكير بمسار موجه مما يجعل من العقل ان ينكمش ويتكاسل ويخشى النقد والتقويم.
٤- الايدولوجية التي تشبع الفضول المعرفي بوابل من صور التخيّل الذي يجعل من العقل ان يُحلِّق بعيداً عن جوهر الواقع من خلال التبريرات واعطاء الذرائع وطمئنة المتأدلج انه على صواب.
٥- نتيجة لما يَمرّ به المجتمع العراقي من أزمات متواصلة ومتنوعة تصل بنا أحيانا حد الاختناق، يُعمل عندها على تكثيف الروايات والقصص السردية بالإضافة إلى الأساطير والخرافات التي تتناسب مع الأزمة مما يساعد على توسيع الفجوة بين العقل ومهامه والواقع المزري الذي لا يتغير الا من حيث الاستعداد والإرادة وتوفير مقدمات التغيير . لذلك نجد ان اغلب الأفراد يحاولون ان يبقوا على هذه المخيّلات التي تعطيهم أمل خادع في الحياة .
اعتقد أنكم توافقوني بان هناك العشرات من الأمثلة التي تعزز أهداف المقال وربما سرعان ما استحضرت الكثير منها عند القاريء اللبيب.
لكن دعوني اكتفي بهذا القدر الذي أظنه قد وضع المشرط الجراحي على ابرز إعاقات التفكير العراقي.
الحلول موجودة لكن المهمة صعبة وتحتاج إلى وقت طويل فلا يعقل ما تم بناءه من قوالب ونمطيات متعرجة في فترات طويلة جداً يمكن هدمه وإزالته بفترة قصيرة، لكن من المهم ان يبدأ الجميع بأخذ دوره في بناء عقل عراقي سليم.
يمكن اختزال الأزمة الاجتماعية العراقية التي تفتقر إلى تطبيق النظام في:
١- تجاهل حقوق الآخرين والسعي نحو ألانا وتحقيق المكاسب باي طريقة تحقق ذلك. ويعني ذلك عدم احترام الآخر الذي يشاركنا الحياة والأمثلة كثيرة على ذلك سواء أكانت من المصلحة العامة للدولة والشعب، أو ما بين أبناء الشعب الواحد.
٢- المغالطات المنطقية التي استباحت العقل العراقي مما جعلت من المجتمع ان يعيش الاستغراب والصدمة وبالخصوص عندما تُكشف طريقة افضل وأسمى لمنهج التفكير.