(ضدّ أفلاطون – الشعر على حيطان المدن)  ناصر مؤنس

(ضدّ أفلاطون – الشعر على حيطان المدن) ناصر مؤنس

ناصر مؤنس

ماذا يعني أن نهتمَّ بـ (القصائد المكتوبة على الحيطان) في رهانٍ لم يعد الشّعر فيه هو الصناعة الأولى، لميعد هو المتحف الناطق الذي يُدوَّن فيه تراث الإنسانيّة أو هو العلم الذي ليس لنا علم غيره، خصوصاً وسطَكلِّ هذه الكوارث التي تُهدِّدنا؟ لا شكّ، هناك الكثير من الأشياء التي بدأت تفقد بريقها في داخلنا، ليس فقط كـ(كائنات) تعيش على سطح هذا الكوكب، بل أيضاً، كـ (قُرَّاء) في هذا العصر الرقمي الذي يفخر بتلك القطيعةالإبستيمولوجيّة مع روح الأساطير والملاحم الشعريّة والفنون الشعبيّة والخيالات التي تعيش في وفاق تامٍّمع محيطها، بعد أن تمَّ استلاب الإنسان والإطاحة بسلطان التفكير ومركزيّة العقل. ماذا يحدث لنا إنْ لم نُعِراهتماماً للجمال الذي يُحيط بنا، ماذا يحدث لنا إنْ تمَّ اعتبارُ أرواحنا تالفة؟ هل ساعدتنا التكنولوجيا علىابتكار ذائقة جديدة لتلقي الشعر أم جعلت منّا مجرَّد أسرى منعزلين، وحيدين أمام الشاشات؟ بالتأكيد،ليست أوَّل من يطرح هذه التساؤلات قبالة الكثير من الإشكاليّات التي تستفزّ حياتَنا.   

ولدتُ في مدينة (بغداد) وهي مدينةٌ على الرَّغمِ مِنْ عمقها الحضاريّ، إلّا أنّها لا تريد أن تحتفظَ بالأثَر، أرادتأو (أريد لها) أن تمحوَ التراثَ الحضاريَّ الضاربَ في عمق التاريخ وتتزامن مع العدم. في عام 1995 كنت فيمدينة (ليدنالهولنديّة) وهي مدينةٌ يحتلُّ الأثرُ حضوراً لافتاً في تشكيل هويَّتها، ومن هذه الآثار (القصائدالمكتوبة على الحيطانموضوع هذا الكتاب) التي تفتح جناحَيْها وتنشر ظلَّ كلماتِها وألوانِها وصورِهاعلى أكثر من فضاءٍ حتّى يصل الوهجُ إلى جامعتها العريقة. في صباح أحد الأيّام وفي طريقي إلى مكتبةجامعة ليدن للبحثِ عن بعض المراجع والمخطوطات، شاهدتُ زوجَيْن مسنَّيْن يتوقَّفان للنظر إلى الحائط. ابتسمتُ لهما وتوقَّفتُ لأرى ما الذي كانا ينظران إليه، وكانت المفاجأة، كلماتٌ باللُّغة العربيّة مرسومة علىالحائط، تقول:-                                                     

(وفي نهاراتٍ أثقالُها كالرَّصاص

يومض كخَطْفِ البرقِ حَبٌّ

لا يُفهَمُ منطقُهُ،

ويندلِعُ الشعرُ كاللَّهيب

في هشيمٍ ضربتْهُ الصاعقة:

في هذا الرمادِ العتيّ المنتشر

كيف بَقِيَتْ هذه الكلماتُ الحارقة؟)(1)

يا إلهي هل هي حاضرة هنا من دون معاونة أحد، هل هي حاضرة من أجلي، هل جاء بها بياض هذا اليومالثلجيّ، هل كتبت نفسها هنا مثل تعويذة حارسة؟ يا لوَهْج الشّعر في وعي مَنْ يُعاني من ثِقل وطأته. فجأةً،بدأت تنبثق الأسئلة:- هذه التجربةُ الإنسانيَّةُ والإبداعيَّةُ، لماذا تغيب عن شعرنا العربي؟ لماذا لا تُكتَب قصائدُالشعر العربيّ على الجدران الخرسانيّة في مدننا العربيّة التي تحتاج إلى الجمال؟ لماذا لا نُزيِّنها بألوانٍزاهيةٍ وكلماتٍ حيَّة؟ لماذا ينطفِئ ويغيب الشعرُ العربيُّ من الحيطان ولا يزدهر أو يضيء، وقد عرفه العرب منذمئات السنين. أليس الشعر هو (ديوان العرب) ديوان مليء بجنائن الحب والحكمة والبطولة، زاهر بالأسئلةالوجوديّة. لماذا يتمّ سجنه في الكتب أو خنقه في المناهج الدراسيّة ولا نجده في كلِّ مكان، على الحيطان، فيالشوارع، على واجهات الباصات والقطارات. على أكياس الخبز وعلب الحليب والكثير من المرافق العامّة،فهو يتَّسِع للأحلام كلِّها وهو القادر على قول كلِّ ما نريد أن نقولَه. لماذا نُحرِّم شعرنا العربي من هذه المحاولةالمختلفة للاتصال بالكون ونحمله على السفر إلى ضفاف أخرى.           

  هذه كانت المفاجأة الأولى، حملها إليَّ خيال الشعر ومنها بدأ الاهتمام بمشروع هذا الكتاب، بعد سنواتجاءت المفاجأة الثانية، حين عثرتُ في (مكتبة بريلمدينة ليدن) على كتاب (أدب الغرباء) المخطوط المنسوبإلى (أبي الفرج الأصفهاني) لأكتشف تلك الإنتباهة الرائعة للأصفهاني، كيف اهتدى إلى حقل الغرافيتيا،وكيف تمكَّن من جمع هذه القصائد كلِّها؟

ومثلما وجدتُ اسماءَ شعراء مثل (أنخريد يونكركريس أبانيجوتي توهوف) على حيطان مدينة ليدن،عرفتُ من خلال (أدب الغرباء) أسماء شعراء مثل (يزيد بن مفرّغ الحميريابن الآجرينصر بن أحمد الخبزأزري) فكيف عرف (أبو الفرج الأصفهاني) الفنَّ الغرافيتي قبل كلِّ هذه العصور. وبدأتُ بالتفكير بدراسةالتعالق والتشاكل بين القصائد المكتوبة على حيطان مدينة ليدن وبين النصوص المكتوبة على حيطانالحانات والديارات في المخطوط المنسوبِ للاصفهاني، وكانت هذه هي الولادة الأولى لمشروع هذا الكتابقادني الاشتغال اليوميّ على هذا الموضوع إلى تغيير زاوية النظر، لأنَّني سأنتهي إلى قصديّة قسريَّة فينسج التشابهات بين قصيدةٍ مكتوبةٍ على حائطٍ في مدينة بغداد العبّاسيّة وبين قصيدةٍ مرسومةٍ على حائطٍفي مدينة ليدن الهولنديَّة، لكنَّ، هذه المقاربة تبقى تقليديّةً ولا تناقش طريقة في القراءة لأنّها تشتغل علىفكرة الأدب المقارن (الذي انتهى منذ خمسينيّات القرن العشرين) ممّا يفقد البحث نتائجه. (وهي، لعمريطريقة اشتغال الكسالى).

هكذا وُلدت فكرة هذا الكتاب (ضدّ أفلاطونالشعر على حيطان المدن) الذي نأمل تطبيقه على مدن مختلفة(عربية وعالمية) ولأنَّ الغرافيتيا هي المقاومة المسالِمة التي تدمج بين الفنون والآداب وبين النشاط الذي يرفضكلَّ هذا الخراب الذي بات يُطوِّقنا، نحن بحاجة إلى جمال يحتضن الحياة، ومَن غير الشعر جديرٌ بهذه المهمَّةالرسوليّة. لقد تطلَّب هذا المشروع الترحالَ إلى مناطق نائية وباتِّجاهات مختلفة من الأساليب والمناهجوالنظريّات والأقوال، وما تمّ تدوينُه هنا، هو بعض المناظر التي التقطت صورتها في أثناء هذا الترحالالمشتبك مع المعنى.

1-   قصيدة لـ (جبرا إبراهيم جبرا) – (1919-1994)- فلسطين– (عراقي الجنسية) لم نترجم هذا القصيدةوعدنا إلى الأصل العربي المنشور في (المجموعات الشعريِّة) جبرا إبراهيم جبرا، منشورات: رياض نجيبالرَّيِّس، بيروت ط1 1990، ص249-250. والقصيدة تحمل الرقم (1) من مجموعة (سبع قصائد) 1989،مهداة إلى راءنونراء.

وهي بعنوان: (مثل البركة الشتويَّة)

أيّامُنا كالشِّتاءِ القُطبِيّ

ساعاتُ الفرح فيها، كالضِّياء، خاطفة،

والفواجعُ كاللَّيل لا تنتهي.

للإشراقات أوقاتٌ ما أسرع ركضها

وللظلمات المواسمُ المُقيمة.

وفي نهاراتٍ أثقالُها كالرَّصاص

يومِضُ كخَطْفِ البَرْقِ حُبٌّ

لا يُفهمُ منطقُه،

ويندلعُ الشعرُ كاللَّهيب

في هشيمٍ ضربتْهُ الصاعقة.

في هذا الرمادِ العتِيّ المنتشر

كيف بقِيَتْ هذه الكلماتُ الحارقة؟

2- الصورة: قصيدةجبرا ابراهيم جبراتصوير: أنوشكا مينارد) رُسِمَت هذه في عام (1995). ويُمكِنالعثورُ عليها في شارع (Berlagestraat 13a) – (ليدنهولندا) وهي القصيدة رقم (30) من القصائدالمكتوبة على الحيطان.     

ملاحظة أخيرة

للأسف الشديد، لا تتوافر معلومات كافية عن هذه القصيدة، أو مَن كان وراء اختيارها. أيضاً لا تتوافر أيُّمعلومات عن المرحوم (جبرا إبراهيم جبرا).

جبرا إبراهيم جبرا: الشاعر والكاتب والرِّوائي والرسّام والمترجم والناقد الأدبي، تلقّى تعليمه في مدارسحكوميَّة في ظلِّ النظام التعليمي البريطاني الإلزامي في بيت لحم والقدس، مِثل الكليَّة العربيَّة الحكومِيَّة،وحصل على منحة دراسيَّة من المجلس الثقافي البريطاني للدراسة في جامعة كامبريدج. بعد أحداث عام1948، هرب جبرا من القدس واستقرَ في بغداد، حيث عمل بالتدريس في جامعة بغداد. في عام 1952 حصلعلى زمالة مؤسَّسة روكفلر في العلوم الإنسانيَّة لدراسة الأدب الإنكليزي في جامعة هارفارد. كتب جبرا خلالمسيرته الأدبيَّة الرواياتِ والقصصَ القصيرةَ والشعرَ والنقدَ والسيناريو. كان مترجِماً غزيرَ الإنتاج للأدبالإنكليزي والفرنسي الحديث إلى اللُّغة العربيَّة. كان جبرا أيضاً رسّاماً مجدِّداً، وكان رائداً في الحركةالحروفيَّة  تلك الحركة التي سعت إلى دمج الفنِّ الإسلامي التقليدي مع الفنِّ المعاصر من خلال الاستخدامالزخرفي للحرف العربي. ترجم إلى العربيّة الرِّوايات (المآسي Tragedies) الكبرى لشكسبير، كما ترجمالصوتَ والغضبَ لِـ(وليام فولكنر) والفصول (من 29 إلى 33) من كتاب (الغصن الذهبيّ) للسير جيمسفريزر وبعض أعمال (ت. س. إليوت). من أشهر أعماله الروائيَّة: (البحث عن وليد مسعود – 1978)، (السفينة– 1970)، (صيّادون في شارع ضيِّقبالإنكليزيَّة 1960). وفي الشعر: (تمّوز في المدينة 1959)، (المدارالمُغلَق 1964)، (لوعة الشمس 1978)، (متواليات شعريَّة: بعضها للطَّيف، وبعضها للجسد 1996).

(Visited 39 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *