المصطلح الأكثر دقة هو المكان في الدراما – السينما
والتلفزيون لكنني احب مفردة الأماكن أكثر لأنها تعطي دلالات
وجدانية وشاعرية أكبر ، لطالما ارتبط المكان بذاكرة الانسان
وبتاريخه وحركته البنيوية الانسانية والمجتمعية ، العلاقة
بين المكان والانسان حميمية جدا وكل مرحلة من مراحل
العمر يتراكم معها خزين معرفي وفكري وعاطفي يزداد من
خلالها التعلق بالمكان على مستوى الفرد أو المجتمع فتبقى
كل مفردات المكان مرتبطة بوعيه وضميره و وجدانه طويا
والدليل على ذلك عندما يغادر الانسان مهاجرا الى بلدان
الغربة لا تغادره ذكريات الأماكن في وطنه وتربته خاصة اذا
كانت هجرته متأخرة وليست في سن مبكر ، الأماكن دائما
تتجاوز المعنى التقليدي للجدران والشوارع والمباني ولا تتوقف
عند الاطار الخارجي لها بل تتحول الى حالة وجدانية وفلسفية
ايضا.
في احدى المرات اخبرني الصديق المذيع في قناة الجزيرة
محمد كريشان انه كان متلهفا للدراسة في بغداد حين تم
قبوله طالبا في جامعة بغداد في فترة السبعينات على ما
اظن وحماسته تلك جاءت عما سمعه وعرفه عن بغداد الف
ليلة وليلة ، بغداد الحضارة والثقافة والفنون حيث قال «أسم
بغداد لوحده يكفي ان يجعلني أشم فيه عبق التاريخ ، »
كريشان كان قد سمع وقرأ عن بغداد كمدينة لكنه لم يكن
يعرف اسماء الشوارع والحارات والاماكن وغيره كثيرون ايضا
لا يعرفون عن تلك الأماكن شئ لم يسمعوا عن البتاوين
أو شارع النهر أو المتنبي أو سوق الشورجة أو خان مرجان ،
لم يروا بابل و أسدها وبوابة عشتار لم يمروا بشارع النهر
وشارع الرشيد أو يعبروا على ضفتي نهر دجلة ولم يسمعوا
بشناشيل بغداد أو البصرة لم يجلسوا في مقهى الزهاوي أو
مقهى أم كلثوم ، كل تلك الاماكن لم يعرفوا عنها شيئا ،
بينما في المقابل نحن جميعا سمعنا عن خان الخليلي و حي
الزمالك وشارع الهرم والنيل في القاهرة بمصر وعشنا داخل
حي امبابة الشعبي و حارات حتى العشوائيات دون أن نراها
، لمسنا ارابيسك وتشكيلاتها من خال شبابيكها وشرفاتها
، تعرفنا على طراز المباني والفلل والشقق في القاهرة
والاسكندرية وحتى بورسعيد ، اكلنا ترمس على ضفاف
النيل وركبنا في المعدية وشربنا الشيشة والشاي الكشري
في مقهى الفيشاوي ، كل هذا دون ان نزور القاهرة يوما
اذن كيف عرفنا كل تلك الأماكن ؟!عرفناها من خال الأفام
والمسلسات والمسرحيات سمعنا حكايات وروايات عنها من
اسامة انور عكاشة ومحمد جال عبد القوي ومصطفى
محرم الذين كتبوا العديد من الأعمال وقدموا لنا شخصيات
تعيش في تلك الأماكن وتعرفنا إليها عن كثب في ليالي
الحلمية والمال والبنون ولن أعيش في جلباب أبي ، كانت
الكاميرا تتجول ونتجول نحن معها فكانت هي بمثابة اعيننا
في المكان ابصرنا فيها الأحياء الشعبية كالحسين والسيدة
زينب ثم تنتقل الى الأماكن الراقية كالزمالك والمعادي ،
فحفظنا الأماكن كلها أو على الأقل أهمها ، وهذا ما يجعلنا
نشعر بالأسى على واقع الأماكن العراقية والبغدادية في
التلفزيون والسينما في العراق فعلى الرغم من الموروثات
المعمارية الثقافية والفنية والاجتماعية التي تمتد جذورها
عميقا في معظم المدن العراقية إلا أن الدراما لم تتمكن من
توثيق وتسويق الأماكن المهمة في بغداد والبصرة والنجف
والموصل بشكل متكامل ومؤثر ولم تقترب من المشاهد
العراقي في ترسيخ الثقافة والفلكلور وحفظ الأسماء فكان
من الطبيعي بدورها أن تفشل في تسويقها الى المشاهد
العربي ، أتذكر عندما عرض المسلسل التركي “نور” في
عام 2005 واسمه الحقيقي “فضة” باللغة التركية كنت قد
زرت اسطنبول حينها وكان المسلسل في اوج شهرته وقد
كان البيت الذي تم تصوير الاحداث الرئيسة فيه بيتا متميزا
من حيث الطراز والمعمار والإطلالة المبهرة على مضيق
البوسفور وكانت الكاميرا الخلاقة قد جعلتنا نستشعر عبق
المكان ورائحة البحر والوان المساحات المحيطة بالمكان في
الليل والنهار وجعلتنا نشتهي تناول القهوة في شرفة الدار
حيث كان يجلس مهند ونور ، هذا المسلسل الذي سّوق لنا
المكان وسحره جعل اصحاب المنزل يستثمرونه بشكل جيد
عندما رأوا كل السياح العرب يرغبون في زيارته والدخول
اليه فقاموا بوضع رسوم لدخول المنزل والتجول فيه بمقابل
خمسين دولار للشخص الواحد وهذا دليل كافي على نجاح
الدراما في تسويق المكان ، المكان لا يعني مجرد جغرافية أو
جدران أو محتويات أو شوارع ، المكان قيمة تعبيرية وكيان
ينبض بالحياة والذكريات ، الأماكن انتماء من نوع فريد ، لا
أدري ان كانت الدراما العراقية في التلفزيون والسينما سوف
تشعر بأهمية المكان وقيمته وحضوره يوما وتعمل على
تسويق أماكن العراق ومدنه الى المشاهد العراقي والعربي
على حد سواء تجعلهم يتوقون لزيارتها ودفع خمسين دولار
تذكرة دخول ، قد يحدث هذا لكن سوف نحتاج أولاً الى ألية
ومنهاج ومفردات تسويق لعل احدها بل أهمها هو الفنان
النجم الذي لديه حضور كافي يمكن استثماره من اجل
تسويق الأماكن دراميا.
اكتشاف الأماكن من خلال الدراما
(Visited 2 times, 1 visits today)