منقذ داغر
يقول البروفسور في جامعة هارفرد جوزيف ناي الابن أن هناك ثلاث مصادر للقوة لأي دولة،بخاصة في مجال العلاقات الخارجية،هي:االقوة العسكرية(قوة العصا) وقوة المكافأة(الجزرة) والقوة الناعمة التي تشمل طيف واسع من وسائل التأثير يصنفها (ناي) الى ثلاثة مصادر هي الثقافة،ومنظومة القيم والعلاقات الاجتماعية،ورأس المال الأجتماعي والسياسي بضمنه شبكة العلاقات الدولية. وكأحد خبراء الرأي العام في العراق أعرف أن معظم العراقيين وفي مقدمتهم النخب يعتقدون أن مصادر قوة العراق طبقاً لتصنيف ناي باتت ناضبة أو على وشك التلاشي! فالقوة العسكرية العراقية وعلى الرغم من تناميها الملحوظ خلال السنوات القليلة التي اعقبت هزيمتها لداعش الا انها مازالت تعاني من مشاكل بنيوية ووظيفية كبيرة لا تجعلها قادرة على مواجهة التهديدات العسكرية والامنية المحلية والاقليمية المتنامية.كما ان منظومة القيم والعلاقات الاجتماعية بل وحتى السياسية تعاني من مشاكل كثيرة،ونفس الشيء ينطبق على رأس المال الاجتماعي. كل هذا صحيح لكني أحاول هنا استكشاف الامكانات المحتملة اذا ما جرى استثمارها بشكل صحيح. مقدماً، لا أرى شخصياً،أي أمل في المدى المنظور(لاسباب موضوعية كثيرة تتعلق بالوضعين الداخلي والخارجي) ان يتحول العراق الى قوة عسكرية تسبب القلق للآخرين بما يمكن استثمارها في التأثير على قرارات القوى الاقليمية والدولية. لذا أعتقد ان أعادة توجيه الموارد الهائلة التي ظل العراق يخصصها لمنظومته الامنية والعسكرية هي الطريق الامثل لتعظيم قدرة مصادر القوة الاخرى(المكافآت والقوة الناعمة) بما يجعلها قادرة ليس فقط على دفع المخاطر الامنية عن العراق بل جعل العراق،قبل ذلك، قادراً على التأثير في المحيطين الاقليمي والدولي.
ولأني أكتب هنا عن المزيج الامثل لمصادر القوة العراقية،فأني أؤكد أن هذا المزيج يتمثل في تعزيز كل من القوة الاقتصادية للبلد بما يجعله قادر على ان يمثل فرصة(او مكافأة) لكل من يريد الاستفادة مما يتيحه العراق من فرص استثمارية واعدة،أو لكل من يحتاج الى موارد الطاقة العراقية التي يتوقع أن يتزايد الطلب عليها(بخاصة آسيوياً) حتى عام 2050. أن مصادر قوة (المكافأة) التي يمتلكها العراق كثيرة جداً فهو أحد البلدان (البكر اقتصادياً) القليلة المتبقية في المنطقة والعالم. ومقارنةً بكل دول الاقليم وكثير من دول العالم فان نسبة العائد على الاستثمار في العراق كبيرة ومغرية لاي دولة او مستثمر. هنا قد يقول قائل ان هناك تناقض بين مطلبك بتقليل الانفاق العسكري ومطلبك بترويج العراق اقتصادياً كون الاستثمار لا يمكن له ان ينجح ويكون مغري ما لم يكن هناك استقرار امني. أجيب أن ما أطالب به هو قوة عسكرية قليلة(لكن متطورة وفعالة) مقابل قوة أمن داخلي مؤثرة وتستطيع ان تحتكر السلاح والقوة في الداخل. مطلوب من السياسة الخارجية في العراق أذاً ان تستخدم بفاعلية وكفاءة مصادر الاغراء الاقتصادي(قوة المكافأة) التي يتمتع بها العراق بعد ان تضمن ان السياسة الداخلية العراقية(الامنية والاجتماعية والسياسية) تمكنها من الترويج والاستخدام الفعال لقوة المكافأة. اذ لا يمكن أغراء أي دولة أو مستثمر خارجي ولا حتى أغراء المستهلكين للسلع العراقية المصدرة ما لم يكن هناك استقرار امني وسياسي وبيئة قانونية ضامنة للاقتصاد.
أما أهم مصادر القوة العراقية التي تم أغفالها لعقود طويلة(حتى ما قبل الاحتلال)فهي الامكانات المحتملة والكبيرة للقوة الناعمة العراقية. فالعراق يمتاز بغنى ثقافي وحضاري وقيمي كبير جداً. هنا لا اتحدث عن الآثار والحضارة العراقية فقط،ولا عن قوة التأثير الديني والروحي للعراق ليس فقط(للشيعة)بل ولعموم المسلمين ايضاً في جميع انحاء العالم.ولا أتحدث فقط عن قيم التعايش المشترك التي يمكن تحسينها لتكون انموذجاً في منطقة تعج بالصراعات العرقية والدينية والطائفية.ولا أخص فقط تاريخ العراق الحديث المليء بالاحداث التي يمكن استثمارها والتي جعلت العراق طوال عقود محط اهتمام الاعلام العالمي والاقليمي.كما اني لا اتحدث عن تلك الدول التي لها او لابناءها ذكريات مع العراق ويعرفون معظم مدنه ومحافظاته. هنا أذكر تلك العوائل واولئك السياسيين والصحفيين الاميركان والغربيين الذين طالما التقيت بهم ولمست مدى أهتمامهم بما يحصل في العراق لانهم اما هم او اقربائهم كانوا ضمن القوات الغازية او وسائل الاعلام التي غطت الاحداث. نفس الشيء بالنسبة للكويتيين والايرانيين والبريطانيين وسواهم من الدول التي كانت على تماس مباشر بالعراق وكان أعلامهم يغص بأسم العراق يومياً. هذا لا يعني أقراري ولا يعني مطلقاً تأييدي لما حصل في الماضي لكنه يعني تنبيه صناع السياسة الخارجية في العراق الى مصادر القوة الناعمة غير المتناهية للعراق.ولعل في مقدمة مصادر القوة تلك، أكثر من خمسة ملايين عراقي مهاجر كان للكثير منهم تأثير مباشر في الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية للدول التي استقروا فيها ويمكن ان يشكلوا مصدرا غير ناضب بل ومتجدد للقوة الناعمة العراقية اذا ما تم التواصل والتنسيق معه واستثمار علاقاتهم وامكاناتهم.
أعلم جيداً ان مصادر القوة هذه جميعها لا تعني شيء ما لم تستند على سياسة داخلية ودولة ناجحة،وهنا قد تكمن العلة الاكبر. مع ذلك يجب التنبيه الى مدى تنوع مصادر القوة في العراق وعدم الركون للقوة الخشنة التي يبدو بعض العراقيين مغرمين بها ويتناسون(عمداً او جهلاً) انها كانت دوماً مصدر شقاء، لا رخاء للعراقيين. أن النجاحات التي حققها العراق على صعيد السياسة الخارجية خلال السنتين الاخيرتين ونجاحه في ان يصبح أرضاً للقاء المتخاصمين وجسراً بين المتنافسين تستحق الاشادة،لكنها أستندت الى جهود ذاتية وليس خطط منهجية تتضمن الاستفادة من مزيج قوة المكافآت والقوة الناعمة التي يتمتع بها العراق فعلا. أن الخارج العراقي الذي كان دوماً مصدر للقلق وعدم الاستقرار يمكن ان يتحول الى مصدر للامن والتنمية اذا ما جرى استثمار امكانات العراق بشكل صحيح .