ليلة القديس جون! قراءة في أصل الخرافة

ليلة القديس جون! قراءة في أصل الخرافة

د حسن السوداني
غالبا ما أشد الرحال الى المدن المفعمة برائحة التاريخ واعتمد السير وحيدا في ازقتها القديمة والتوقف امام الابواب التي ظلت محافظة على نقوشها الأصلية.. كثير من تلك المشاهد يمكن رصدها في روما والقاهرة  ومراكش وتونس وغرناطة ودمشق وإشبيلية وبغداد ، مدن مترعة بالحكايات والأساطير والخيال المحلق عاليا..
و لدي في كل تلك الأماكن اصدقاء لا يقلون روعة عن مدنهم وحكاياتها ، ولم تنقطع عادتي تلك عندما استقرت بي الدنيا في الشمال الاسكندنافي وبدات بخزن الحكايات التي لا يعرفها الكثير ممن ولدوا وربما ماتوا في هذه البلدان واكتشفت بعد مرور عقدين من حياتي هنا أن تلك الحكايات كانت المنجم السحري الذي انتشلني من فكرة التباهي المطلق التي التبستني وانا القادم من بلد كتبت فيه اول ملحمة في التاريخ، (ملحمة كلكامش)  وهناك خط الإنسان الأول اول حروف اللغة واخترعت اول عجلة دارت على وجه هذا الكوكب.
ولعل من تلك الحكايات العجيبة أن مالمو السويدية التي كانت جزءا من السلطة الدنماركية سابقا اتخذت اسمها من عادة عربية قديمة أوقفها الاسلام وحرمها  قبل١٤٤٣ عام الا وهي عادة واد البنات اي قتلهن، فقد جاء في صلب تلك الحكاية أن طحانا سويديا له بنت جميلة فرت مع حبيبها دون رضا ابوها الطحان فظفر بها وطحنها مع القمح الذي يصنع منه الدقيق ومازالت رحى تلك المطحنة في الساحة الكبرى لمدينة مالمو stor torget ، لكن الاف السويديين يمرون عليها يوميا دون أن يلحضوا صرخات وأنين تلك الفتاة المسكينة، لكن الفكرة الأبرز التي خرجت بها من تلك الرحلات العديدة هي الفصل بين الحكاية وبين تصديقها كونها حقيقة، وربما اغلب تاريخ تلك المدن التي زرتها والمدن التي نعيش فيها مليء بالكثير من الحكايات التي كتبها أشخاص  ثم صدقها الناس على أنها حقائق محضة !!
ففي زيارتي لجنوب الجزائر  لواحدة من أهم مناطق انتاج البترول في العالم سألني أحد الأدباء هناك  عن قصة عيد القديس جون والتي تتلخص بأن الدنماركيين يحتفلون. وتضرم النيران المكشوفة ليلا  وعلى رأسها نموذج مصنوع  لساحرة ويمهد لهذا الحدث بقيام شخص مشهور بالقاء  كلمة أمام النيران المضرمة. وبعد الكلمة، يغني الحضور أغنية “Midsommervise” (أغنية منتصف الصيف) لهولجر دراشمان (1885) والتي تعد ملخصًا لليلة صيفية شمالية مضيئة ورؤية شاعرية رعوية رومانسية قومية للثقافة القروية.
، تعد تلك الليلة اي( ليلة القديس جون )الليلة الفعلية لمنتصف الصيف، وبالتالي فإنها الليلة الأقصر في العام بأكمله. ووفقًا للاعتقاد السائد، فإن هذه الليلة مشحونة بقوة خاصة حيث توجد أيضًا قوى الشر التي تؤدي دورها.  ولو سألت خبيرا دنماركيا في أصل الحكايات لاخبرك أن الناس يعتقدون  أن الساحرات كن يطرن في الماضي فوق عصي مقشاتهن الطويلة في طريقهن إلى قمة “بروكن”.
وجبل بروكن (بالألمانية: Brocken Berg) هو أعلى جبل في جبال هارز وفي كل شمال ألمانيا.يرتفع في جيماركونغ من منطقة ويرنيجيرودر من ششيرك في حي هرز في ولاية سكسونيا أنهالت. الجبل والمناطق المحيطة بها هي جزء من حديقة هرز الوطنية. وتقع قمة جبل بروكن على ارتفاع 1141 م عن سطح البحر. ولإقصاء قوى الشر، تضرم النيران المكشوفة على أسطح مرتفعة عادة. ثم يتم  وضع ساحرة مصنوعة من الملابس القديمة ومحشوة بالقش فوق النيران المكشوفة جزأ مهم من الحدث وهي  عادة لم تكن شائعة حتى القرن العشرين.
ومصدر سؤال الصديق الأديب هو كيف يصدق الناس في الدنمارك قصة الساحرات ذات المقشات؟
أجبته : الشعوب بحاجة للخيال لممارسة المتعة، لكن الخطورة أن العنصريين في هذه الدول يتخذون من هذه الحكايات المختلقة فرصة للتعالي على الاخر والتمايز ويبذلون في ذلك الأموال الكثيرة وتعطل الكثير من الخدمات ويضطر الناس لقبول تلك المختلقات لمجرد أنها من النسيج القومي لهذا البلد أو ذاك.
وتعود بي الذاكرة إلى منتصف الثمانينات إبان حرب السنوات الثمانية بين إيران والعراق أن صحفيا يعمل في قسم التحقيقات في جريدة الجمهورية الصادرة في بغداد ويتراس ذلك القسم صحفي متشدد وسيئ المزاج وقد كلف هذا الرئيس المزعج ذلك  الصحفي بكتابة موضوع عن الحرب وبطولات العراقيين في مواجهة أعدائهم الايرانين، ولم يتسنى لذلك الصحفي العثور على موضوع مناسب للنشر حتى اقترابه من غرفة رئيس القسم وهناك قدحت له فكرة الكتابة عن امراة فلاحة جنوبية تتصدى للاعداء وتهزمهم وحدها وأطلق عليها اسم (تسواهن) وما أن قدم الموضوع المختلف إلى رئيسه في القسم حتى هلل وجه الاخير ونشره على وجه السرعة، وماهي الاساعات حتى ارسل صدام حسين أمرا ببناء تمثال لهذه المرأة البطلة، فكرة الصحفي الخادعة مرت على الدكتاتور ومستشاريه وأصبحت حديث الناس لسنوات طويلة  ولولا سقوط نظام صدام حسين لكان العراقيون يحتفلون حتى الآن بكذبة الصحفي الخائف من رئيس قسمه.
وما دمنا نتحدث عن الحروب وماسيها فإن الدنمارك تحتفل في كل  15 يونيو – بيوم فيلاديمير وفقًا للأساطير التي لم يعرف من صاغها فإن العلم الدنماركي  (Dannebrog) قد سقط في هذا اليوم من السماء على يد ليندانيس في إستونيا، حيث كان الملك فلاديمير الثاني المنتصر يشارك في الحملات الصليبية في عام 1219. ومنذ 1913، أصبح ذلك اليوم يوم العلم الوطني حيث يتم بيع أعلام دنماركية صغيرة. وحتى عام 1948، كان هذا اليوم إجازة مدرسية وكان يتم الاحتفال به مع احتفالات فلاديمير في أنحاء البلاد.
والسؤال هنا :كم من الدنماركيين قد تحقق من قصة سقوط العلم بيد ليندانيس في استونيا؟ وهل جاء العلم طائرا ام ماشيا على قدميه؟
ولأن الحكايات التي لم يعرف ناسجوها تستهوي الناس على اختلاف ثقافات هم فإن حكاية القديس مارتن والاوز تكاد تكون الاكثر غرابة في العلاقة المتخيلة بين الانسان والحيوانات ففي يوم  10 نوفمبر – يحتفل الدنماركيين بعيد القديس مارتين وهو الليلة التي تسبق يوم القديس مارتين. ويتناول الكثير من الدنماركيين البط أو الإوز المشوي في تلك الليلة. وطبقًا للأساطير، كشف ستار مارتين بعض الإوز إذ اختبأ ببساطة ليهرب من منصب الأسقف. ولذلك، فقد قرر أن يموت الإوز ويتم التهامه في ذلك اليوم الموافق 11 نوفمبر من كل عام. ونتيجة لهذه الحكاية فإن الاف الاوز يلتهم بتلذذ في هذه الليلة تحت وقع الصلوات وربما الأدعية التي تنال من خيانة الاوز للقديس مارتن!! وإذا رجعنا إلى سيرة القديس مارتن لوجدنا الرجل قد عاش ومات متواضعا رافضا للحرب التي سجن بسببها لموقفه المضاد منها ولم يسعى لمنصب الاسقف بل تم الاحتيال عليه لإجباره على قبول ذلك المنصب وسط اعتراض الكثير من رجال الدين وقتها بتواضع الرجل وزهده في الدنيا ومفاسدها!!
لكن الدنماركيين لا ينفردون بتلك الطريقة في استجلاب الاساطير وحشرها في الواقع بل اغلب شعوب الارض لديها ما يوازي تلك الحكايات ففي العراق مثلا تلعب اساطير الحيوانات دورا في المجتمعات الريفية في السابق ومنها حكاية اللقلق الذي قتل انثاه لانها خانته مع اخر فقتله ثم القى  بنفسه من علو شاهق ومات   واللقلق تدور حوله اسطورة شعبية معاصرة أخرى  تقول انه كان انسان يقوم بحراسة مخزن للحبوب فتلاعب بالميزان وسرق الحبوب فمسخه الله لقلقا, لذا فبعض العراقيين يتخذون الحذر من اللقلق.  .
والخرافة احيانا تلتصق بالدين كي تاخذ مصداقية لمن يسمعها ومن بين تلك الخرافات المنتشرة في العالم العربي خرافة قتل الوزغ  وهو كائن صغير من الزواحف ينتشر في البلدان الدافئة يتم قتله بناء على فتواى دينية مفادها  أنه كان ينفخ النار على النبي  إبراهيم حين ألقاه أعداؤه في النار، حيث قام  الوزغ ينفخ النار على إبراهيم من أجل أن يشتد لهيبها، وذلك مما يدل على عداوته لأهل التوحيد والإخلاص، ولذلك ينبغي للإنسان أن يتتبع الأوزاغ في بيته وفي السوق وفي المسجد ويقتلها.
ورغم أن الشرق مترع بحكايات الخرافة لما يتسع له المخيال الشرق المشبع بالسرد الحكائي إلا أن دول الغرب لو وضعتهم تحت موشور التحليل النقدي لوجدت فيهم العجب العجاب من حكايات تفوق حكاية صاحبنا القديس جون بعشرات المرات..ولا يضن البعض اني اعترض على تلك الحكايات بل  يكمن سر اعتراضي في  اعتبار تلك الخرافات نوعا من الحقائق التي تستدعي  تشددا قوميا أو اهتماما بالهوية الثقافية التي لا ياصلها حتما حشد الأكاذيب تلك.
(Visited 51 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *