دكتور/ خالد البغدادى
تعد الحروفية من أهم المدارس المميزة للتجربة التشكيلية العربية ، وغير موجودة فى مغظم الحضارات واللغات الأخرى . مماأكسبها طابعا خاصا ومميزا ونادر التكرار ، وهنا تكمن القوة الكامنة فى الخط العربى من حيث كونه رمزا ومفردة تشكيليةمحملة بالمعانى والدلالات والقيم التشكيلية أيضا ، فلا توجد لغة حول العالم قد أنتجت كل هذه الأنواع والأشكال من الخطوطوتنويعاتها الزخرفية .. الخط الرقعة /والنسخ/والثلث / والخط الكوفى / المزهر / والمضفر / والخط الفارسى .. الخ
وقد ظهر الاتجاه الحروفي في التشكيل العربي مع حلول منتصف القرن الماضي من خلال اعتماد الحرف العربي كمفردةتشكيلية تؤدي إلى عمل فني عربي تشكيلي معاصر محدد الهوية ويملك إمكانية التطوير والتجديد . لقد لعب الخط العربيدورا كبيرا وأثر تأثيرا مباشرا علي التراث العربي والإسلامي لما يتمتع به من حيوية في الصياغة ومرونة وبنائية وإمكانياتتشكيلية عالية . ويميل فنانوا المدرسة الحروفية إلي الإستفاده من الامكانيات الفنية والقيم الجمالية الكامنة في الحرف العربيفي محاولة بناء عمل فني متطور ينافس اللوحات الفنية المتعارف عليها
ومن أبرز الفنانين الحروفيين نجد يوسف سيدا من مصر .. وشاكر حسن آل سعيد من العراق .. وعلى حسن ويوسف أحمد منقطر .. ونجا المهداوى فى تونس ، والفنان المغربى محمد بستان والفنان السودانى تاج السر وغيرهم ، وقد إعتمدوا فيأعمالهم علي الخط العربي لما فيه من إمكانيات فنيه متنوعة , وحاولوا بناء حروفية مليئه بالحياة والحيوية والديناميكية عنطريق إثارة الطاقة السحرية الكامنة فى الحرف العربى .. مثل :
– وجود عنصر الحركة في شكل الحرف
– ونسبة طوله الي عرضة
– وإمكانية استخدام عناصر زخرفيه ملحقه بالحروف
– وكذلك درجة قابلية الحرف للتركيب والتشكيل
– ودرجة سيادة العنصر الزخرفي أو العكس
– ومدي التنوع في صور الحرف التشكيلية .
ويحاول الفنانون المزج بين تقنيات الخط العربي وتقنيات فنيه تصويرية مثل القيم اللونية وأنواع التكوين وطريقة بناء العملالفني بأسلوب معاصر ، هذا بالإضافة الى إستخدام العديد من الزخارف الهندسية منها أو العضوية المستوحاة من الزهوروالنباتات وأوراق الشجر . كما يستخدم ألوان ذات طابع خاص بعيدة عن البريق أو اللمعان ، مثل اللون الأسود والذهبي لمالهما من رصانة وصقل ووقع خاص علي الناظر ، فالخط العربي هو اختزال للروح الإسلامية التي تحكمها نظم وقواعد جماليةوروحية
وقد حاول الفنان العربى / المسلم جاهدا من أجل حروفية خاصة به محملة بدلالات صوفية وروحية وبعيدة عن المعالجاتالتقليدية للحرف العربى من تقابل وتناظر وتداخل السالب مع الموجب والأبيض مع الأسود , مما يبعدنا عن القراءة ( اللغوية ) المتعارف عليها ويحيلنا الى القراءة ( البصرية ) الجمالية القائمة على التشكيل والبناء واللون . ومن المؤكد أن المحترفالتشكيلي العربى يملك الكثير من التجارب الغنية لفنانين استطاعوا في إبداعاتهم المتنوعة واستخداماته المتعددة للخطالعربي أن يسبقوا حركة الفن التشكيلي المعاصر في نزوعه إلى التجريد مستفيدين من قابلية الحرف العربي للمد والاستدارةوالبسط والصعود والهبوط واللين في طريقة كتابته.
واللوحة الحروفية العربية تتعرض اليوم بحكم تمددات الحداثة التشكيلية والرؤى المتجددة في التعاطي الأسلوبي لكثير منالتساؤلات المتصلة بالمنجز الحروفي وتاريخيته وصلته بالحداثة ، وما أشاع من تقليدية جديدة ابتعدت بالكتابة شكلا ومضموناعن الدلالات المصاحبة لها، ,أفقدتها حميميتها ودفأها الشخصي الإنساني الذي تبثه الحروف المكتوبة باليد عادة . ودخولالحاسب والرقميات وثقافتها عنصراً مهما في ثقافة العصر وفي قلب عملية التلقي ، مما باعَدَ الحرف المخطوط / المكتوب / المرسوم .. الذي تبتغي اللوحة الحروفية الإفادة من جمالياته ووجوده الصوري ، لإثراء الرؤية وتعميق المشاهدة البصرية لدىالمتلقي ، كون الحرف ميراثا جماليا عربيا مرتبطا في الذاكرة بالمقدّس من جهة ، وبالهوية اللغوية والثقافية للجماعة من جهةأخرى .
مما يحيلنا الى نظرية كانط حول الجليل والجمبل ..( فالجميل ) يعجب كل الناس في كل الظروف وهو غاية في ذاته ،وليس وسيلة لشئ آخر ، أما ( الجليل ) فيتعدى الإدراك ويتميز باللانهائية ، وبهذا يصير مصدراً ( للاحترام ) . لأنالبدايات الأولى للاهتمام بالخط العربي كان مبعثها المعرفة والتعلم ثم بعد ذلك وضعت له القوانين والأسس الموضوعية والعلميةواخترعت له الطرق والأساليب الإبتكارية التي أضافت إليه جمالية جديدة ..!!
ورغم أن هذه المدرسة الفنية قد حققت إنجازات جمالية ملحوظة إلا أن الدافع ورائها – فى اغلب الأحيان – كان دافع ( أخلاقى ) أكثر منه دافع ( جمالى ) ..!!؟؟
جماليات الحرف العربى
وغالبا ما يلح سؤال ما هو السر وراء جمالية هذا الفن ؟ وكيف نتعرف على هذه الناحية الجمالية وعما إذا كان بإمكان العقليةالإسلامية والعربية الحديثة الارتقاء بالخط الى ما هو أجمل ؟
وللإجابة على هذه التساؤلات لابد من التعرف على الأساسيات التي تدخل في صميم هذه الجمالية وخاصة تلك التي هي منطبيعة الخطوط العربية أو ناتجة عن عقلية الخطاط المسلم أو نابعة من وجدان وروح البيئة التي عاشها ، كما أن هناك جمالامعنويا مضافا يدركه المرء ببصيرته قبل البصر وهذا الجمال المعنوي هو فوق القواعد الخطية وهو أيضا غير تناسب الحروفوالكلمات , تلك هي روح الجمال ولا يدرك هذا الجمال المعنوي ويفهم جاذبيته إلا من علا وصفا روحيا. لقد أدرك الفنان المسلمما للجمال من وقع في النفوس فسخر أقلامه لتزيين الآيات الكريمة فاطرب العيون بروعة إبداعاته التي استلهمها من جمالروحه ورقة عاطفته
وهناك نوعين أساسيين من الخطاطين الذين تفاعلوا مع الحرف العربى وهما :
الأول:ْ الخطاط المبدع
والثاني:ْ الخطاط الاعتيادي
الخطاط الاعتيادي هو من أدرك أساسيات الخطوط العربية وتعرف على أنواعها و بقي في حدود معرفته الضيقة , ولم يتمكنمن مسايرة روح عصره ، أما الخطاط المبدع فهو من أدرك أساسيات الخطوط العربية وتعرف على أنواعها , ويتمتع بالقدرةعلى ابتكار أشكال جديدة تفصح عن مهارته وقدرته على الحفاظ على أصالة الخط واستطاع أن يجد لنفسه أسلوبا مميزايستطيع به أن يؤثر في وسطه الفني.
وإذا كان الإبداع يتمثل في الكشف عن زوايا جديدة لم يلتفت إليها احد فمن الطبيعي أن تكون حالة الإبداع في الخطالعربي حالة غير عفوية بل وتمكن وراءها جملة أسباب منها :ْ مهارة الخطاط المبدع وقدرته على ابتكار نماذج فنية جديدة فيالخط العربي وإضافة معالجة حديثة ومبدعة لتكويناته ، فالخطاط المبدع ينزع الى الجديد المبتكر الذي يتحدى الخيال ويثيرالإعجاب وكان يجمع بين الحيوان والطير والإنسان في صياغة تشكيلية جذابة .
وقد صدر عن مركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية كتاب (ديوان الخط العربي في مصر في عصر أسرة محمد علي) في إطارسلسلة كتب جديدة بعنوان (دراسات الخط العربي المعاصر)، وهو تحرير الدكتور خالد عزب مدير مركز الخطوط ، والباحثمحمد حسن ، ويضم أكثر من 1000 صورة من أكثر الصور التي تتعلق بالخط العربي والخطاطين ندرة. يشير الكتاب إلىأن فن الخط العربي يعتبر من أبرز الفنون العربية التي ظهرت في الإبداع الفني الإسلامي، حيث حمل الخط العربيباتجاهاته ومدارسه، الخصوصية الحضارية والإنسانية للفن العربي، فبدأ وانطلق فن الخط العربي من الجذور الأولى للكتابةالعربية، وبرزت قيمة “الكتابة” كحامل للنص، واختلفت مهمته عن الكتابة في الحضارات الأخرى وتميز عليها، في تجاوزهلمهمته الأولى من نقل للمعاني والأفكار، إلى مُهِمَّة جمالية أصبحت غاية بحد ذاتها. وتعد دراسة الخط العربي من العلوم المهمّةفي مجالات عدة مثل: اللغويات، والآثار، والنقوش، وتاريخ اللغات، وعلم التاريخ، إلى جانب أنه فناً خالصاً من الفنونالإسلامية ويدخل شريكاً في بقية أنواع الفنون.