قصة قصيرة
* محمد رشيد
نادرا ما أقتنص ( لحظات حُلمي ) وأمتطيها صوب الواقع لأعيشها , لكن مأساتي هي أن مخالبُ الحرب غالبا ما تطال هذه ( اللحظات ) وتُقبلُ ( من أُحب ) بعنف لأصحو بعدها متوجاً بانكساراتي .
كانت فكرة التوجه إلى تلك المدينة تنمو في دواخلي منذ أعوام لكن الضوء الأحمر لا يزال متمترسا … ناشرا عباءاته على كل الفصول , المركبات يقلقني خصامها الأزلي مع التكنولوجيا ….الطريق الطويل يغرز في دواخلي الســأم لأنه لا يزال يجهل فن التغزل بخضرة الطبيعة ليدنيها منه لكن لابد من التوجه إليها ..لتنعش ذاكرتي …لتخلع ما تبقى من ثيابي التي نسجت برائحة البارود والمثقبة بمخالب الحرب ..لأغتسل بدموعها ..لأغفو فوق تلَييها الحنونين …لتغطيني بشلالات شعرها الذي يمطر علي أزهارا أثمل بأريجها وفراشات أتدفأ بألوان أجنحتها ..لتعزف على ما تبقى من أوتار قلبي بأناملها ( قلوب النخيل *) سيمفونياتها الكونية التي تذوبني في طقوس خاصة تفر منها الكلمات خجلى لأنها لم تستطع ان تصفها .المركبة راحت تلتهم إسفلت الشارع بأقدامها الدائرية وما أن يلتصق نظري على زجاجة المركبة الأمامية حتى تتحول إلى شاشة تعرض لي ذكريات قديمة …وتنبؤات مستقبلية غالبا ما توقعني في مطبات حالما أوشي بها لغيري .أقدام المركبة مازالت تدور وتدور وأنا في اندماج روحي متصاعد وإنشداد ميكانيكي مع مسند الكرسي وتلك الأحداث التي تصدره لي تلك الشاشة من أيام طفولتي ….إلى آخر الانكسارات المخبئة لي . الأقدام الدائرية ظلت تدور وتدور حتى دوى ارتطام في الشاشة من الخارج حيث كان الصوت غير عادي بالمرة لم تحتضنه أذني بقدر ما طعن قلبي الذي بدأ ينكمش تدريجيا ، وقتها اغتسلت الشاشة بالقاني من الدماء وتقدد لحم ذلك الطائر المسكين بحافات تصدع الشاشة وبات المشهد موضع تفرس من قبل الجميع ,توقف السائق عن القيادة وراح يتمتم و يتململ وراح يحضر دلوا من الماء ليزيح ما تبقى من ذلك الطائر ,لحظتها راودني فضول لمعرفة جنس ذلك الطائر ,بحثت عن ريشه فلم أجده ,نقبت عنه مجددا في كل مكان فلم اعثر على أي شيء منه مما اضطر عددا من المسافرين لمناداتي بأصوات شابها التوتر والانزعاج لأنني على ما يبدو أضفت لرصيدهم تأخيرا آخر ,هذا الشيء أقلقني جدا وكأن اختفاء الريش كان أمرا مقصودا !! صعدت المركبة وبدأت تبتلعني دوائر القلق وتحضنني في مداراتها المغناطيسية ,الأسئلة هي الأخرى راحت تتسابق وتطرق في رأسي كالنواقيس وعلى الرغم من تنظيف السائق مكان الاصطدام بقيت أشاهد الشاشة مصطبغة بذلك اللون القرمزي اذ راح يرسم لي أشكالا مفزعة ومتعددة ,مرة يظهر على شكل كف يناديني بسبابته ويختفي ، ومرة في شكل حافة بئر تدور حول نفسها وتبتلع كل ما حولها ,هذه المرة بهيئة ربطة عنق من القنب متدلية من الأعلى تظهر من خلال دائرة انشوطتها أشباح مخيفة تناديني …مرة أخرى مشهد اختفاء ريش ذلك الطائر بدأ يعاودني حتى التفت إلى عنقي دوائر الغثيان وراحت تضيق أكثر ..فأكثر إلى ان شاهدت الريش يتطاير من حولي ولم أر سوى أشياء مجهولة لم أشاهدها من قبل ,أشكالا مفزعة حينها بدأت تتسلل لسمعي أصوات ارتطام ذلك الطائر وبدأت تعلو وتعلو إلى أن وضعت كفيّ على أذنيّ وضغطتهما بشدة وبدأت بالصراخ مما انتبه الجميع من حولي وراحت أسئلتهم تنهال علي كالمعاول , الطريق أصبح أطول مما وصفوه لي لكن لابد من التوجه إليها , إنها ما تبقى لي من هذا العالم ..أكيد إنها في انتظاري من زمن بعيد ,الشيء الوحيد الذي احلم به هو لقائي بها ,عناقي لها وحده في هذا الكون سيعيد لي ما قضمته مني تلك السنون .. وحدها من تجيد العزف على قيثارتي التي ثقبتها تلك الرصاصات البلهاء ,أتذكر دائما (عدونا ورقصاتنا تحت المطر , خصاماتنا كانت بعمر الشموع التي غالبا ما تنتهي بزرع قبلة بين عينيها لتثمر عناقات مطولة خلسة خلف الأبواب مؤجلا قطاف كمثرتيها لمواسم قادمة , النهير الجميل الذي ابتلع سفننا الورقية ) تلاشت هذه المشاهد حالما توقفت أقدام المركبة ,لامست قدمي حافة الرصيف متوجها إلى ذلك المكان تحسست حينها بثقل وتباطؤ في خطواتي وكأن خدرا قد دب بهما ,مضيت مسرعا لأغتال بعض الوقت ,تحسست يمناي مكان النبض وكأن دبوسا انغرس فيه وكلما أسرعت في خطواتي بافتراس الطريق كانت تعاودني تلك المشاهد اللعينة ,وصلت ذلك المكان ,اندهشت حينما شاهدت حشدا من المارة ملتفين من حوله ,اقتربت منه , دنوت أكثر حتى اشرأب عنقي من بين الأكتاف المتلاصقة ,سمعت البعض منهم : (خطية …مسكينة ..كانت تحبه ..ظلت مخلصة له..كانت تنتظره هنا يوميا وبلا كلل ..) هذه الكلمات راحت تثقبني حينما سمعتها ,شاهدتها مســــجاة فوق الأرض تعلوها قطعة من القماش ملطخة ببقع من الدم , اقتربت أكثر ,جثوت على ركبتي وأزحت من على وجهها تلك القماشــة ببطيء فوجئت بتطاير ذلك الريش (الذي فقده الطائر) إلى السماء يتراقص مع نوتات تلك السيمفونية ( سيمفونية الرماد ) التي كانت تعزفها لي (…..) ارتعدت حينها وتضببت الرؤيا من حولي ولم أحس سوى ظلاما راح يطبق على الأرض ورأسي راح يتوسد ذراع الرصيف .
/ مشهـد /
• كل اللذين احتشدوا حولهما اندهشوا عندما شاهدوا طائرا بلون الشمس ولامع كالذهب خصوصاً عند الرقبة وباقي جسمه أرجواني وذيله لازوردي تشوبه ريشات بلون القرنفل ، يزين رأسه عرف رائع تنتصب عليه قنزعة وريش طويل يضوع بشذا البنفسج أنبعث من مكان النبض لذلك الغريب وراح يحلق عاليا يتبع ذلك الريش والنوتات بخطوات راقصة إلى فضاء لا منتهي .
هوامش
• * قلوب النخيل ( الجمار ) قلب الجمار الذي يشبه الأصبع لونه أبيض ، وملمسه ناعم ، وطعمه حلو
• محمد رشيد-قاص عراقي صدر له(و.أفي 98)قصص(موت المؤلف)لقطات قصصية(ساعة الصفر)قصص (للنهر مرايا مهشمة) قصص (القصة العراقية في رحاب ميسان)اعداد دراسات.