شاكر الانباري
رحل محمد سعيد الصكار قبل ثماني سنوات، وقبل رحيله بفترة أصدر كتابا ممتعا، سمّاه إخوانيات الصكار، وقد صدر عن دار المدى، وأهداني، وقتها، نسخة من الكتاب، لكنه ضاع في ما ضاع من كتب بين قلق المدن والبلدان. ونعلم أن الإخوانيات فن من الفنون الكتابية شديد الخصوصية. فالإخوانيات تدور بين الشعراء، أو الأدباء، بحميمية وحرية، وفي شكل يكشف الوضع الشخصي للشاعر ومزاجه وطبيعته وعلاقته مع الآخرين، أو البيئة التي يعيش فيها. كما تكشف من خلال الرسائل المتبادلة والمقطوعات الشعرية والتعليقات البرقية، عن دواخل صاحبها التي يسرّ بها إلى أصدقائه، وغالباً ما تكون محجوبة عن القراء لأسباب شخصية من ناحية، ولكونها تهامساً بين الصديق وصديقه. وتكتسب حريتها من هذه الخصوصية، لأنها إذ تكتب لا يقدر لها الأديب أنها ستنشر يوماً. ومن هنا تكون لهذه الممارسات الشعرية والنثرية أهمية ثقافية وتاريخية، إضافة إلى ما فيها من متعة بما تحمل من فكاهة ورأي صريح. ومما يذكر هنا ان كاتب الإخوانيات هذه، أكسبها أهمية بسبب دوره الفني والثقافي والصحافي في حقل الثقافة العراقية والعربية. فمحمد سعيد الصكار في كتابه “إخوانيات الصكار” دار المدى، دمشق – 2001 شاعر ورسام وصحافي، ولد في شهربان العراق عام 1934، ودرس الابتدائية في مدينة الخالص من محافظة بعقوبة، والثانوية في البصرة وبغداد. بدأ دراسته الجامعية في معهد اللغات العالي – قسم اللغة الروسية، وفصل لأسباب سياسية. ثم أصبح لاجئاً سياسياً في سوريا عام 1957 وقضى سنة في التعليم الابتدائي في قرقانيا، وهي ضيعة في شمال حلب.
أقام الصكار عشرات المعارض الشخصية لأعماله الفنية في بغداد والكويت والإمارات والأردن والبحرين وفرنسا، وهو من ابتكر الأبجدية العربية المركزة التي تختصر الحروف الطباعية من المئات إلى 21 وحدة فقط، وحروفه الكومبيوترية الجميلة وتصاميمه اللينة المبتكرة تغطي أغلفة مئات الكتب والمجلات، وله أكثر من عشرة دواوين مطبوعة. تنقل بين البلدان شرقاً وغرباً، ومن تجربة الحياة تلك، عرف الصكار مئات الشخصيات الأدبية والفنية والسياسية، عراقيين وعرباً وأجانب، ثم قدم إخوانياته هذه لقارئ يبحث عن سر وطرفة ودعابة.
يسلط الكاتب محمد سعيد الصكار الضوء على فترة شحب فيها هذا الفن، وصار من جملة ممارسات أدبية تداولها والحديث عنها يطعن في جدية الشاعر والتزاماته الثقافية والسياسية. أما المجالس الأدبية التي يشير اليها العنوان فهي ليست كالمجالس الأدبية المعروفة في العراق، وكانت تعقد في أوقات منتظمة في دواوين بعض المثقفين ووجهاء البلد، كالجواهري، وجعفر أبو التمن والحبوبي وغيرهم، ذلك انه لم يكن لدى الصكار بيت من هذا القبيل، لكنه كانت لديه مكاتب عمل يزوره فيها الأصدقاء. وفي محترف الصكار للخط والرسم في البصرة نهاية الخمسينات الذي دأب على ارتياده أصدقاء ذلك الزمان ،ومنهم مظفر النواب وموسى النقدي وخيري الضامن وطالب غالي ويوسف الصائغ وعبدالرزاق عبدالواحد، تعقد الحوارات حول مستجدات الأدب والسياسة ومعضلات تلك الفترة الحرجة من تاريخ العراق.
كانت تلك المجالس نوعاً من ذكريات، تروي مسيرة عقود من السنين، حافلة بالشعر والنثر والطرائف. وكان الصكار محوراً لها، إما ناثراً قصيدة أو مجيباً عن رسالة أو ناظماً أرجوزة بسبب موقف معين. والشعر منثور ومقفى وفصيح وعامي، بحسب موقع الشخص ومستواه الاجتماعي. وتختلط في الرسائل الأساليب الفنية، النكتة والسجع والشعر العامي والدسيسة الأدبية. وقد ضم الكتاب 200 مادة عن أكثر من 150 شخصية وموضوعاً، منهم الجواهري وبلند الحيدري وناظم حكمت وماسينيون وإبراهيم السامرائي وسعدي يوسف ويوسف إدريس وسهيل إدريس وعمر أبو ريشة ونزار قباني وحبيب صادق وغيرهم. ففي مناسبة بلوغ الكاتب الستين من عمره كتب الشاعر بلند الحيدري ارتجالاً، في مجلس ضم عدداً من أصدقاء الشاعرين في لندن مقطوعة شعرية قال فيها: “صكارنا العظيم في الستين/ يختال ما بين ربى السنين/ لأنه كالأمس في العشرين/ بروحه وفنه الرصين/ بقلبه المملوء بالحنين/ للوطن الممزق الجبين/ وشعبه المقهور والمسكين…”.