حكايتي مع جالي  / عبد الكريم عباس

حكايتي مع جالي / عبد الكريم عباس

قصه فصيله

عبد الكريم عباس

في جهة الشارع الأخرى في الطابق الأرضي، تقطن سيدة عجوز متهالكة تجني كلباً صغيراً، سمعتها مرة تناديه ” جالي” تفتح له النافذة وتجلسه يتأمل الشارع طيلة الوقت، يتابع المارة والعربات والكلاب يجرها اصحابها، ينفعل مرات، وأغلب الأحيان يجلس على مؤخرته أو يستلقي ورأسه خارج النافذة، منشغلاً بكل حركة تمر من امامه.
هكذا حاله منذ خمس سنوات، مذ جاء صغيراً بحوزة السيدة العجوز القانطة الكسولة… وأعتقد أنه بات يعرف سكان الشارع وربما الشوارع المجاورة التي يتكرر مرورهم أمامه، ومادامت للكلاب ذاكرة، فلابد انه يعرف من ولد ومن مات… أما أنا فيعرفني من ريحتي ويتعرف على خيالي حتى لو كنت خلف الستائر، فهو يراني طيلة النهار لطالما يطل برأسه من النافذة، وما دمت أظهر له من خلف نافذتي كل يوم، أفتحها وأجلس أشتغل قبالته، أطل عليه بين حين وآخر، وحالما تقع عيناي في عينيه يفر مثل عصفور من مكانه فرحاً، فألوّح له فيزداد هياجاً وينبح ويكاد أن يقفز من النافذة، لولا أن العجوز تنهره وتربت على رأسه وتتحدث معه حتى يستكين وأعود أنا إلى طاولتي… أتعمد حين اخرج في مشوار المرور بجانبه ومداعبته … لأرى الفرح بصيغة لا مثيل لها، فلم أرَ كائناً يفرح بهذا القدر من السعادة ويبيح بها؛ لكنه سرعان ما يحزن لظهور صاحبته ويخاف، فيهملني لحين غيابها ويعود إلى ارسال عواطفه عبر النافذة…
يبدو أنه أكتشف في مدعباتي ومناداتي باسمه، عاطفة تعوزه وتبدد كآبته المؤطرة بنافذة تطل على شارع مهمل… أنا من جانبي اكتشفت أنه اقترح عليّ طريقة عيش جديدة ومفصل لابد منه من مفاصلها، انتخبه هو وحدّد صيغته، فبات لازمة عليّ أن اتوقف عن العمل وارفع رأسي وأُلوّح له، فيأنس ويطرد المزيد من وحدته عبر النافذة… كثير من أفعالنا، ربما كلها، تقترحها علينا طريقة عيشنا وكثير من خطواتنا ينتخبها لنا الشارع والزمان والآخرين… “جالي” انتخبني واقترح عليّ حياة خاصة بنا عبر النافذة، فهو يراني من مكانه مؤطراَ بنافذة كما أراه، فيعطف عليّ ويلوح لي بذيله بود جميل كما أفعل له، وأراه أعمق وفاءً مني، فأنا أغلب وقتي، وإن كنت أبدو له من نافذتي وهذا مهم لديه، أكون منكباً على عملي بعيداً عن العالم وعنه… لكنه لا يشغله غيري وينتظر بشغف تلك اللحظة التي أرفع فيها رأسي وأرنو إليه… لابد أنها أجمل لحظاته حياته، وربما يفكر بأنه خلق من أجلها، أو أني خلقت من أجله، من أجل منحه لحظات السعادة هذه.
_ بربك يا “جالي”، لا تبالغ! فنحن خُلقنا بلا اهداف وليس من أجل أحد، بل من أجل ممارسة الحياة لا غير… خذ صاحبتك مثلاً… ماهي اهدافها؟ من أجل من تحيا؟ سيأتي يوم لا تجدها بجوارك ولن تسمع صوتها إلى الأبد… لا أحد منا يعيش من أجل الآخر، نحن نفترض ذلك ونتمثله، وأغلب الأحيان نجيد في تمثيله والقيام بدورنا بمهارة عالية… نحن كائنات لا نخترع وسائلنا وحسب، إنما نبدع في اختراعها وتعميمها على بعضنا البعض، فتصبح سنناً واعرافاً وقوانين تقوم عليها مجتمعات وبسببها تهدم مجتمعات وتتبدد… دعك من هذه المبالغة يا “جالي” ودعني أواصل عملي، فلدي مشروع معقد يستدعي جهداً ووقتاً طويلاً، من أجله (انظر من أجله) يا جالي ! من أجله حذفت من جدول مهماتي الانتقال إلى سكن آخر افضل من هذا القبو، والسفر للعيش بضعة أشهر بعيداً عن القطب، وربما الزواج من ارملة ثرية… آه يا جالي، كلانا ألغى من حياته ومن أجل الآخر، اهتمامات جانبية… أرجوك، لا يأخذك الوهم أني حذفت هذه المهام من أجلك… واتمنى ألا تكن جاداً في القول إنك خلقت من أجلي، وأني خلقت من أجلك، من أجل لحظات عابرة ومداعبات وتلويحات! ولكن معك الحق فكلانا لا يجيد غير ذلك وليس غيرنا من ينتظرها.

(Visited 3 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *