شاكر الانباري
يمكن لأي نص أن يكون ممتعا في القراءة لأسباب كثيرة، كالوصف الذكي للبيئة، وسلاسة اللغة بإيقاعاتها المبتكرة، والعمق الفكري التأملي للأحداث، والطرافة، وابتكار المشاهد والحوارات، وزاوية النظر الفريدة للحياة، ثم الحكاية الطازجة. ولعل هذه القصص جمعت بعضا من تلك المواصفات السردية كلها، إلا أنها تميّزت بحكائيتها التي تغري القارئ بالمواصلة، والانتقال من قصة إلى أخرى بانتظار له سمة الفضول لما سوف تجترحه الكاتبة في سطورها التالية. هي ذاكرة دقيقة، شعبية، ساخرة أحيانا، ومتنوعة بسبب تجربة الكاتبة في الأمكنة التي زارتها أو عاشت فيها. والذاكرة هي الخيط السري الذي انتظم القصص أجمع، وكأنها تقدم خلاصة لمعاناة زمنية مديدة، تغتني بالأشخاص الغريبي الأطوار والمواقف المفارقة، والبيئات المتنوعة مكانيا وزمانيا. نجد طريقة محترفة في تحريك الذاكرة تلك بين الماضي والحاضر، الطفولة والمشيب، مع ربط حكائي يجمع نتف الذكريات لصياغة قصة ممتعة تقسر قارئها على المتابعة.
وعادة ما يتوفر ذلك للكاتب المحترف، وإنعام كجه جي من الكتاب المحترفين بعد تجربة روائية مهمة في السرد العراقي والعربي، يتذكرها القارئ في روايات شهيرة كالحفيدة الأميركية، وطشّاري، والنبيذة، وغيرها. يرفد تجربتها ممارسة صحافية ممتدة لعقود، ومن تلك الخبرة الصحافية برعت في صياغة قصتها “صورة المرحوم” و”الكاميرا الأولمبس”. إضافة للحكائية، والذاكرة، والمتعة المحسوسة في القصص، يمكن تلمس سمة الاغتراب بوضوح. شخصيات مغتربة، مستوحشة، عاشت بعيدا عن بلد نشأتها، أدلّ سماتها الانشطار الروحي بين بلد المولد وبلد العيش، والذاكرة القلقة التي يندمج فيها، بعض اللحظات، الماضي بالحاضر، فيتحول الفرد إلى عجينة تقترب من فقدان هوية الشكل والانتماء واللغة، وتفاصيل الأمكنة الغريبة. وكل ذلك طبعا ثمرة لأجيال عربية هائلة العدد تغرّبت في أوربا بعد قدومها من العراق، ومصر، ولبنان، والجزائر، وأفريقيا المستعمرة، والمغرب، وغيرها من البلدان. وشكّلت فرنسا، خاصة، مصهرا لم يتوقف يوما في تكرير حياتها، وما يتبع ذلك من تبلور غريب وطريف لتلك الشخصيات. وهو ما أغرى الكاتبة في تحويلها إلى مادة قصصية، لها نكهة غير محلية، قد لا تنتمي إلى بلد يعينه.
عارية في الوزيرية، عمياء في ميلانو، نخلتي، مرآة كردوسة، مع هذه القصص وغيرها يقف القارئ عند نصوص يمكن تسميتها بنصوص الاغتراب، أو النصوص “الكوزموبولتية”. نصوص ذات رنين مميز لا يشبه النصوص الوطنية، أي المكتوبة ضمن واقع وطني محدد كالعراقي أو اللبنانيي أو المصري. وهي بشكل ما واحدة من تمظهرات الكتابة السائدة في اللحظة الحضارية الراهنة، بزوال الحواجز الحضارية، والاندماج البشري عبر التكنولوجيا الفائقة التطور، والآفاق العلمية المحلقة بعيدا عن الأساطير. والتجربة هي النضج والحكمة والمعرفة، وقد فاضت تلك الخصائص على معظم القصص، ولوّنتها بالمعنى من الحياة ذاتها، ومراحل تغيراتها على الكائن البشري المتصل بالموت الأكيد في النهاية. لذلك جاءت الشخصيات مكتملة التجربة، تضع القارئ في دائرة المشاركة لنغمة النضوج وحكمة الوجود البشري المحكوم بالزوال. ومن هنا يبرز سمو التواضع، وفهم تلك السيرة الإنسانية المؤطرة بين قدرين، قدر الولادة وقدر الموت.
أول مفارقة يلمسها القارئ في هذه القصص تتجلى في الغلاف، فهناك الرقصة المولوية المعروفة لدى المتصوفين التي أسسها جلال الدين الرومي، لكن الغلاف الراقص يحمل صورة أرنستو جيفارا الثائر اليساري المقتول في أحراش بوليفيا. وكأن الغلاف إيحاء بمفارقات تلك الشخصيات التي سيراها القارئ بعين الخيال، ويعيش معها على الورق. التناقضات الفاقعة، الايمان والإلحاد، التحرر والتقديس، الهنا والهناك، الذاكرة القزحية والحاضر المر، الوهم وشراسة التحولات الاجتماعية، وقد حكمت المفارقات تلك شخصيات القصص بوضوح. وتجلى عاليا بقصة “بلاد الطاخ طاخ”، حيث يهرب تمثال الديكتاتور في متحف الشمع لكي يستعيد تمثيل دوره كقائد أوحد، كليّ القدرة. يرتدي نياشينه القديمة، ويبرز شاربيه الذكوريين، وينفخ صدره، بعد أن هرب من المتحف بالتواطؤ مع الحارس كي يستعيد دوره بإتقان، في فيلم يتناول حياته الذهبية. وهنا نقع على الكوميديا المجهرية المتخفية عميقا في روح معظم شخصيات القصص. المرأة التي زارت مصر وجلبت مرآة ترى في بلورها تفاصيل حياتها، والمنظّفة الجزائرية التي تصاب بصدمة لأنها اكتشفت صورة ل”هواري بومدين” في بناية عتيقة. وكانت الصورة ملقاة في زاوية المراحيض لتلك البناية. هي مفارقة الغلاف نفسها، حين اندمج جيفارا برقصة أدّاها الحلاج على جسر بغداد قبل مقتله.
وقصص “بلاد الطاخ طاخ” هي أيضا حكايات النساء، وقد بلغت بهن الحكمة منتهاها بعد التجربة المتواصلة في الزواج، والانجاب، والسفر، ومغادرة الجمال القديم، واستقبال خريف العمر الملوّن بأمراض الجسد. وهي لا تنتهي حتى تصل بهن إلى المقبرة. منهن الصحافية الشابة وهي تروي بداياتها في مهنة المتاعب، والمسافرة بين المطارات والحدود، والأرملة الفرنسية الحاملة لرماد زوجها النحات لتدفنه في مقبرة أعظمية بغداد، ثم العاشقة في زمن الكهولة. تجارب غنية، مريرة، سعيدة، متشائمة، ممتدة لأعمار كاملة. وفي بلاد الطاخ طاخ، بلاد الفقر، والازدواجية الأخلاقية، وهيمنة العقل الأسطوري، والذكورية الفاقعة، وخراب الحروب والهجرات والانفجارات المباغتة، تصبح الحياة مشكلة أزلية يعيشها الفرد يوميا، وهو يحلم بالهروب منها حتى لو كان الهدف كوكبا شمسيا نائيا. وذلك عكس البلدان المستقرة، والمتطورة، التي تخطط لأيامها، وتسكر بلذّاتها اليومية ونجاحاتها، وعادة ما تكون الحياة فيها تجربة سحرية تستحق أن تعاش، وهي مفارقة أخرى خبيئة عميقا، ومجازا، في قصص الكاتبة العراقية إنعام كجه جي.