” سأتشبث بخيوط الكلمات … سأدفن نفسي حيا في أجوافها”
حاورته نزهة عزيزي : كاتبة جزائرية فرنسا
وجدت في مكتبتي الشخصية، كتاب “إزابيل ابرهاردت وباسيدي الفقيه” الذي شدني منذ ان وقعت عيناي على اول جملة فيه، فرحت اتصفحه بشغف، فكان رفيق عودتي من الجزائر إلى فرنسا.
ولسحره الآخاذ وددت أن اتعرف على كاتبه ” محمد بصري ” فقمت برحلة بعد التحري عبر الفضاء الأزرق ” فيسيوك ” فإذا بي أكتشف كاتبا عاشقاً للفلسفة ، والنقد والرواية.
فجاء حواري معه ثريا تتخلله ذكريات ونشأة مشتركة.
فمن هو محمد بصري ؟
محمد بصري :
انا ابن القنادسة من مواليد 1969 مفتش مادة الفلسفة، إشتغلت في ميدان التدريس أكثر من 15 سنة بعد بكالوريا في شعبة الآداب، أحب الكتابة التي تجري في جسدي مجرى الدم . صدر لي في سنة 2021 كتابين “ازابيل ابراهاردت وباسيدي الفقيه ” والقرآن الكريم وفلسفات التجلي الإلهي ” ” المتغطرس” في 2019 ولي رصيد من المقالات في المجلات المختصة في الفلسفة وغير المختصة في بعض الجرائد الوطنية كالخبر والعربية كالمستقل العربي ولي مشاركات بمقالات فلسفية أبرزها المنتدى الفلسفي المتخصص الذي يكتب فيه الدكتور رشيد العلوي في الدار البيضاء بالمغرب.
ولي مقالات في مجال الروحانيات والصوفية حيث كتبت مقالات متنوعة في مؤمنون بلاحدود.
نزهة عزيزي : انا لا أشك أن لمكتبة جدك ضلع في زرع بذرة الكتابة داخلك فنحن كما يقول برنارد بيفو الاعلامي الفرنسي المشهور “نكتب لأننا نحتك بأفكار الآخرين ” والسؤال الكلاسيكي الذي لا بد من المرور منه متى كانت بدايتك مع الكتابة ؟
محمد بصري : منذ نعومة أظافري، كما يقول حنى مينة “بالصدقة او الخطأ اصبحت كاتبا” فعلا كان لمكتبة جدي الزاخرة الفضل في زراعة بذرة الكتابة بداخلي كما تفضلت، فقد كنت فضوليا جدا قرأت النوادر العربية للاصفهاني 24 جزء وكتب الإمام البخاري وعمري لم يتجاوز الثانية عشر ناهيك عن قراءاتي لاجانا كريستي وفي الأدب الروائي العالمي عموما، خصوصا مصطفي العقاد الذي لا أمل من قرائته لكن إهتمامي بالفلسفة الوجودية لامانويل كانط وغيره أثر على تكويني كمفتش تربوي لمادة الفلسفة ومازال تصادم العقلي الفقهي والعقل الفلسفي يشغلني ومازالت محنة إبن رشد تثير إهتمامي وابن المقفع وتصوراته الفلسفية.
نزهة عزيزي: عندما نقرأ روايتك ازابيل ابراهاردت وباسيدي الفقيه نلمس البعد الروحاني الفلسفي في كتابتك لماذا الاهتمام بهذه المرأة التي مازالت محل جدل كبير حول شخصيتها فمنهم من يراها قديسة اعتنقت الصوفية في الزاوية القادرية بواد سوف ومنهم من يرى فيها جاسوسة لصالح الاستعمار الفرنسي ،إلا انك تنصفها من خلال هذه الرواية حدثني عن فكرة الإنصاف وكيف بدأ الاهتمام بها ؟
محمد بصري : لقد جاءت صدفة، كان الاستاذ محمد رشد الغني عن التعريف في الوسط الأكاديمي المحلي لولاية بشار والذي إعتنق الإسلام في القنادسة يدرسني اللغة الفرنسية، ذكر لي في احد الايام أن ازابيل كتبت عن جدتي “لالا يامينة ” فاثار ذلك فضولي وأمام قلة المراجع التي تحكي عن القنادسة في القرن الماضي جعلني أبحث عنها في الانترنت فوجدت أنها ماتت بطريقة تراجيديىة بعد أن حاولت إنقاذ زوجها من الغرق وهي مدفونة قرب صافية كتو الاديبة الروائية في ولاية عين الصفراء. أما فيما يخص أسلوبي الفلسفي الروحاني في الكتابة فهو راجع للخلايا كما يقول ويلسون وهو مفكر إنجليزي ثقافتنا مسجلة في خلايانا التناسلية لا يمكن أن ننفصل عن الرصيد القداسي ،هو جزء من تفكيرنا و حجر مؤسس في دواتنا وعقلنا السلالي.وفي القصر القديم بالقنادسة عموما نشأنا في بيئة روحانية .فاللمسة الروحية موجودة في الكتاب الاخير الصادر لعبد الله عزيزي ومحمد فزيوي الذي يزخررصيده بالروايات يتميز أيضا بهذه البصمة. ولا أنكر أن هذان الاديبان شجعاني على الكتابة. رغم أن عبد الله عزيزي يكتب ببلاغة شديدة في اللغة الفرنسية إلا أن روح كتابتة تبقى عربية صوفية تنتمي لمدينة القنادسة جملة وتفصيلا، فهو محاضرموسوعة، ممتاز باللغة العربية رغم أنه لم يكن معربا فهو يمتلك حبكة الإقناع وتوصيل الاقكار وهذا أمرغاية في الاهمية .أما محمد فيزيوى فهو يكتب بعمق انطلوجي وحس عالي يجعلك تعيش كل تفاصيل شخصيات رواياته فهو دو مخيلة ثرية ونلمس ذلك بقوة في كل أعماله الروائية أذكر منها “من أكواخ القنادسة إلى أبراج منهاتن”. أما عن إهتمامي بايزابيل ابرهاردت فهولا يعود إلى ذكرى جدتي فحسب – جدتي التي عاشت وماتت في البقاع المقدسة بعد سفر مضني كابدت فيه الأمرين موت إبنتها خلال سفرها الشاق من القنادسة إلى مكة بل أيضا فضولي للبحث عن حقيقية إمراة كتبت أكثر من 2000صفحة عن المجتمع الكولونيالي الصحراوي الجزائري. وذكرت جدتي في إحدى مخطوطاتها كانت كل هذه المعطيات تدفعني للكتابة عن ايزابيلا كما يحلو لي أن أسميها. أن تنكرها في زي رجل أعتقد لم يكن يخفي نوايا سيئة بل كان اللباس الذي يتسم به أهل العرفان في زاوية واد سوف وقد أهداها اياه الشيخ الهاشمي بن إبراهيم القادري في منطقة واد جريد حيث إعتنقت الإسلام. لم تكن حياتها سهلة ولا أعتقد أنها عانت كل هذا التيه والتشرد في الصحاري الجزائرية بحثا عن معلومات وجوسسة لصالح الاستعمار لا أدلة ورقية تثبت كل هذه الاتهامات التي بقيت تشوب ماضيها.
نزهة عزيزي : كانت أزابيل ابيرهاردت روسية الأصل وهي تنتمي لمجتمع برجوازي، كان بإمكانها الحفاظ على رغد العيش الذي نشات فيه في نظرك ماهي الدوافع الحقيقية التي جعلتها تعيش حياة من التجوال والمغامرة ففي روايتك نراها تعطف كثيرا على المهمشين او الحراكيش او البقع السوداء واستوقفني في روايتك حديثها مع ياسمينة تلك المومس التي نال من شرفها احد الجنود الفرنسيين وتركها لقمة سائغة للسل وللذئاب البشرية.
محمد بصري : عندما نتصفح ماكتبت إزابيلا ونقرأ ماكتب عنها لايمكن أن لا تسكن بين أضلع هذه المرأة روح صوفية فهي عاشت حياة بوهيمية صحيح عرفت فيها الفاقة فكانت تتقرب من الزوايا للتتمكن من التقوت فهي لم تبع يوما جسدها كما إتهمها بعضهم في مؤتمر دولي بباريس سنة 1934 وأعتقد أنها كانت “سايبة” وهي كلمة بالدارجة المحلية تعني “التيه” أليس الإنسان في حاله تيه حتى يهتدي إلى طريق الله. والعارفون يهتدون بقلوبهم للمحبة التي تشمل جنس البشر ولا تفرق بين احد وبلوغ مقام المشاهدة من أفضل المقامات . وكان للزاوية الفضل في إحتضان تلك الروح التائهة وإحتوائها. لقد كانت كتابات ازابيلا تزعج المستعمر لأنها كانت تفضح جرائمه وتجني الغرب على قيم الشرق غصبا وتدنيسا. والدليل انها تعرضت لحادثة إغتيال من طرف شاب يدعى عبد الله بن محمد بإيعاز من الضابط الفرنسي ايبير قوزالف ليوتي. إلا أن العناية الإلهية شاءت عكس ذلك فقد وافتها المنية وهي شابة يافعة.تركت خلفها رصيد أدبي زاخر في عمر قصير ” في الظلال الساخنة للاسلام ”
نزهة عزيزي : كانت فترة الحجر نتيجة جاىحة كورونا مثرية وخلاقة بالنسبة لمحمد حدثني عن تجربة الكاتب المحجور ؟
محمد بصري : كانت فترة الحجر فترة تفتقت فيها أزهار وورود الكتابة بداخلي كتبت ” القرآن الكريم وفلسفات التجلي 182 صفحة تناولت أسئلة فلسفية جوهرية تطرق لها الفكر الإنساني وكيف تناولها الفكر الإسلامي المعاصر.
نزهة عزيزي: هذا الكتاب رحلة بالعقل في النص المقدس فهي تحرضه للتفكير الحر الذي لا يتناقض مع الدين بعيدا عن قضبان الماضي وسجونه اليقينية والتلقينية.لماذا إحتاج محمد لإخراج كل هذا الزخم التراثي وإستنطاقه عبرفلسفات التجلي الإلهي خصوصا والانسانية تعيش حالة رجوع وتقوقع على ذاتها بعد ما اصبح هاجس الموت يقلق مضجعها ؟
محمد بصري : حاولت في كتابي أن أطرح أسئلة ليست جديدة بل هي نضال إحتفائي بجمالية الماضي فهي تدق أبواب ونوافد في عالم فكري بات التصحر سيد الموقف فيه وعاد عرضة لاختراق ثقافة الحسم والانغلاق والنهايات الفكرية السعيدة، هو عالم شقي وسعيد بجهله وتمنعه، حالم بنمطقيته مشبع بسوابق الادانة ونوازع التربص والادلجة.
نزهة عزيزي : على ذكر الادلجة ، المشهد الثقافي الوطني والمحلي في الجزائر يئن تحت وطأتها، مارأي محمد بصري كروائي في هذا المشهد ؟
محمد بصري : ممكن أن نتساءل اليوم بمرارة عن الثقافة في بلدنا وعن التراجع المريع للقراءة ، فإختفاء القارئى يعني إختفاء الكاتب هما متلازمان للفعل الابداعي .لقد إختفت مكتبات كثيرة بالعاصمة وفتحت مكانها محلات السادويتشات والاكل الخفيف، واتسائل أليس للعقول ايضا غداء أما ملأ البطون يكفي لنعيش حياة الانعام فقط. أن إحتضار المكتبات او موتها يعكس واقع ثقافة المناسبات والفلكلورالذي صبغ المحافل الرسمية لدور الثقافة ، علاقة المؤسسات الثقافية بالثقافة هي علاقة إحتفالية تتعلق بالمعارض كعارضة لسلعة وليس كفضاء للتحاور الفكري ونهل للمعارف والثراء الايستمولوجي. او حتى تشجيع المبدعين والروائيين للاستمرار في العطاء.
عزيزي نزهة : كأكاديمي ومدرس سابق هل تعتقد أن موت الحس الذوقي او غيابه ممكن أن يعود الى منظومتنا الذوقية وكيف يمكن لنا إعادته تأسيسه فهو جزء لا يتجزأ عن الصوفية وهل ممكن أن نعتبر طرقها أداة لادراكها أو تداركها.
محمد بصري : انا اتابع بإهتمام مناهج وبرامج تلفزيونية ومدرسية حديثة لانها تنمي النشا مثلا في فرنسا على التجربة الذوقية، نحن نحتاج لاعادة النظر في مناهجنا التربوية لتنمية هذا الحس وصقله علما أن هذا لا يتنافي مع تعاليم الله الانفرسالية. فالحضارة ذوق وكنا حضارة ذوق عبر التاريخ نبقى نأمل دائما في التغير من خلال الكلمة لأننا نزول ولا تزول الكتب لأنها تدخلنا التاريخ.
نزهة عزيزي : الحديث معك شيق ودسم وزخم، يصعب علي تحديد معالمه لكننا سنلتقي في فرصة أخرى اترك لك حرية ختام هذا الحوارالثري ماذا يمكن أن تقوله للقارئ العربي عبر المستقل.
محمد بصري : تحية طيبة لهذا المنبر الاعلامي العربي من كتاب الجنوب الغربي الجزائري بمدينة القنادسة ومن المثقف الجزائري عموما إن هذه المنابر هي ضوء يسلط على الإبداع عبر العالم إنها منافذ نور على ما تجود به قرائح الكتاب المثقفين في عتمة الإعلام المحلي والوطني اتمنى لهذه الجريدة المزيد من التألق والنجاح وأشكرك على هذه النافدة التي نطل منها على القارئ لاثرائه.
لا يمكن المرورو على كتابات الكاتب المفكر محمد بصري دون ان تأسرك تلك الكتابات بجماليات حضورها اللامنتهي، فهي ليست مجرد أسلوب كتابي ساحر، بل استحضار مكثف للدلالات في تناغم فني متألق و منطلِق… فليست الكتابة سلوكا عفويا يُملأ وقت الفراغ واللاجدوى… بل نحت وجودي بتشكيل جديد مبدع، يستمد مستنداته من العقل و الفلسفة، و من الفن و التجربة الجمالية، في تناغم صوفي متعال …. حقيقة تشعرنا كتابات المبدع المتميز محمد بصري بتفاهة المواقف و سذاجة المبتذل، اذا ينفلت نصه من القوالب الجاهزة التي توحي بتوقع المآلات و المصائر، فهو نص مفتوح على استحضار اللامتوقع واللا متأمل… ما يتيح للذات القارئة تسجيل حضوريها الايجابي ككينونة متفردة تكرّم عليها نص محمد بصري بأدراك هذه الكينونة.