أ.د. ابراهيم العاتي
النجف مدينة عراقية عربية قديمة تضرب بجذورها في العمق الحضاري لبلاد ما بين النهرين. وفي ايام مملكة الحيرة التي اسسها المناذرة العرب، كانت النجف امتدادا لبساتين الحيرة، ولكثرة ما كان ينبىت على ارضها من الزهور وخاصة الشقيق الاحمر سميت بـ (خد العذراء)، وحينما قامت الكوفة وخفت نجم الحيرة، كانت النجف – ومعناها المكان المرتفع الذي لا يعلوه الماء- في ظاهر الكوفة، تحمي منازلها ومقابرها من السيل. ولمع نجم الكوفة حينما اتخذها امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (ع)، عاصمة لخلافته، وبعد استشهاده وهو ساجد يصلي الفجر في المحراب، دفن في النجف بناء على وصيته. وتلك كانت بداية تمصير المدينة وظهور طابعها الديني والعلمي. كما بقيت بسبب مناخها الجميل وجوها المعتدل، منتجعا للخلفاء العباسيين حتى القرن الثالث الهجري، ويحدثنا التاريخ أن الخليفة الواثق العباسي (ت 232 هـ) زار النجف، وكان معه اسحاق بن ابراهيم الموصلي (ت 235 هـ)، الذي بهره المكان وطبيعته الخلابة، فأنشد:
يا راكب العيس لا تعجل بنا وقفِ نحيّي داراً لســـعدى ثم ننصـــرفِ
لم ينزل الناس في سهلٍ ولا جبلٍ أصفى هواءً ولا أعذى من (النجفِ)
كأنّ تربتهُ مسك يفـــوح به أو عنبرٌ دافه العطـــارُ في صدف
حفّت ببرّ وبحـــرٍ من جوانبهـــا فالبر في طرف والبحر في طرفِ
***
لكن كيف بدأت هذه الطبيعة الساحرة تتآكل وتتصحر، وجوها يتغير ويصبح شديد الحرارة، شحيح المياه؟ وتلك هي المشكلة التي عالجها الاخ الفاضل وصديق الصبا الاستاذ تحسين عماره، الاديب والمؤرخ والمهندس، في كتابه المهم والمتميز (عطش النجف) في مجلدين بمئات الصفحات الغزيرة بالمعلومات والصور والوثائق والاحصائيات، اضافة الى فصول الدراسة نفسها التي بلغت ثلاثة عشر فصلاً، تتوزع موضوعاتها على جوانب طبوغرافية وجيولوجية ولغوية وادبية وتاريخية وسياسية ودينية. يتطرق اليها بقدر تعلقها بموضوعه الاصلي، وهو مياه النجف. ناهيك عن المقابلات الخاصة مع شخصيات عاصرت الاحداث التي يبحث عنها، او كانت قريبة منها. كذلك قيامه بزيارات ميدانية للتأكد من بعض المعلومات الواردة في الكتب التاريخية، بالاضافة الى مناقشته لها بشكل مستفيض، فهو لا يقبل المعلومات التاريخية الا بعد ان يمحصها ويدققها من زوايا متعددة.
ويبدو أن المشاريع الخاصة بهذا الموضوع بدأت بشكل جدي في العصر العباسي ايام البويهيين، مرورا بالسلاجقة والايلخانيين، ثم الصفويين وملوك الهند الجعفرية والعثمانيين. وقد عانت النجف معاناة شديدة من شحة المياه او انقطاعها، واضطر سكانها، وفيهم اعداد كبيرة من العلماء وطلبة العلم، الى شرب مياه الابار المالحة ، وتحمل حر المدينة القائظ صيفا وبردها القارص شتاء، وصبروا على كثير من النوائب والمحن لسببين رئيسين: الاول، حبهم لمجاورة مثوى امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، والثاني: الدراسة في حوزتها (جامعتها) الاسلامية العريقة، والحصول على المراتب العلمية العليا ليعودوا الى بلدانهم كي يؤدوا دورهم الفقهي، والتبليغي الشرعي. خاصة وان النجف الأشرف في القرون الاخيرة، لعبت ادوارا سياسية وعسكرية، وكانت لها الريادة الشعرية والادبية في العراق، وتؤثر في بلدان عربية واسلامية اخرى! كما اصبحت مركزا ثقافيا واقتصاديا مهما.
ولذا كان الملوك والسلاطين والامراء وكبار التجار يتدخلون لحل المعضلات المائية في النجف، وكانت اقسى وأشد معاناة مرت بها النجف، قد حصلت بعد ثورتها عام 1918 ضد الاحتلال البريطاني، والتي حصلت قبل ثورة العشرين ومهدت لها، حيث قطع الانجليز الماء عن النجف كلها، مطبقين سياسة العقاب الجماعي، ضد السكان المدنيين!
لقد اعادتني هذه الدراسة القيمة للاستاذ تحسين عمارة الى مرابع طفولتي وصباي في النجف القديمة بمحلة (طرف) العمارة، التي كانت عامرة بمجاورتها لضريح امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، وكان يقطنها العديد من العلماء والمجتهدين، والاسر النجفية القديمة، وببيوتها ومدارسها ومساجدها ذات الطراز المعماري الاسلامي الفريد. ولعل مما ذكره المؤلف في كتابه، من آثار تلك الحقبة بقي موجودا، ومازلت اتذكر البئر العميقة في بيتنا القديم وقد انتفت الحاجة اليه، بعد توفر الماء عبر الشبكات الحديثة.
وفي الختام اشير، الى ان النجف اذا كانت قد عانت من العطش وندرة الماء، فان نميرها العلمي والادبي لم يتوقف عن العطاء!.. فتحية للمؤلف وجهده.