علي وجيه || كاتب وشاعر عراقي
منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، وثمّة نسقٌ غريبٌ جداً في الفضاء العام العراقي، وهو: استهداف عنصرين أساسيين مُتداخليْن، جغرافياً وعقائدياً: الجنوب والتشيع.
الاستهداف هذا له عدة عناصر للاشتغال فيه، لكن العنصر الأغرب هو الأدوات المنحدرة من أصول شيعية.
الاستهداف هذا لا يشملُ عنصراً واحداً من العناصر التي تشكّل هوية هذين التجمعين، فهي تستهدفُ اللهجة، طريقة العيش، الملابس، الأكل، وصولاً للتفاصيل العقائدية، وليس انتهاءً بالأغاني والشعر، مروراً بكل شيء تقريباً بهذه الجماعتين المتداخلتين.
دعونا نتفق أولاً على أمرين منطقيين:
– لا توجد جماعة بشرية معصومة.
– الاعتزاز بهويةٍ ما، لا تعني بالضرورة محاربة الهويات الأخرى، فمن حقك أن تفتخر بأنك ابنٌ لميسان أو ذي قار، دون أن يعني هذا المسّ بابن محافظة أخرى، أو أن تعتز بأنك شيعي وليس لديك مشكلة مع السنة.
الضآلة التي يتبعها أولئك الذين يحاولون الانسلاخ من جلدهم، وإبراز النماذج غير المحببة أو ذات الثغرات من الجماعة، مع تصوير أن هذه النماذج هي الوحيدة الممثلة لهذا الطيف، هذا نكرانُ أصل، ويكشف بشكل واضح عن جهلهم بالجماعة، والمشهد العام، بشكلٍ مُريب.
مثلاً، قام كويتبٌ لا يرى من العراق شيئاً إلا بفلتر صدام، بالإشارة إلى خراب “المدينة” عبر الأغاني الريفية والشعر الشعبي، وهو فضلاً عن جهله التام بالغناء العراقي، وتمظهره في القرن العشرين، فهو لم ينتبه إلى أغاني المناطق الأخرى التي فيها ما يكون شيئاً أنيقاً، وشيئاً مبتذلاً أيضا، فالأغنية كائن حي، ولكل بشر، بكل طبقاته له ما يعبر عن ذاته، لكن من اليقين أن أغنية “عمي يا بياع الورد” أكثر جمالاً وأناقة من أغنية شهيرة عن “السمّاق” تُغنى في الموصل..
هل يصح هذا المثال الذي أوردته؟ لا، لكن الأهم: السياق.
النزاع العشائري في الجنوب، هو نزاع ضد الدولة، وفوضى، وهذا من الثوابت، لكن: ثمة نزاعات مشابهة في كل مناطق العراق.
قمع المرأة؟ متوفر بشكل ملحوظ في مناطق أخرى من العراق، لكن ثمة قنوات لا ترصد إلا الجنوب.
لماذا إذن هذا الرصد؟
ثمّة ولاء يكون للمؤسسات التي يعمل بها المرء، يفترض أنه بسلخ نفسه من جماعته الجغرافية أو الإساءة لها، من خلال تقديم نموذج يشبه محمد حمزة الزبيدي في النظام السابق، الذي كان جلاداً أكثر من المنحدرين من مناطق أخرى ومذاهب أخرى، سيقرّبه من المموّل، وتأكدوا أن المموّل لا يطلب ذلك من موظفيه!
جعفر الإبراهيمي بخطأه العنصري الذي ارتكبه يستحق الإشارة والانتقاد، لكن: أين الوجوه الشيعية الإيجابية التي تستحق الإبراز؟ هل وجدتم منشوراً لهؤلاء يوماً عن الوائلي؟ المقدسي؟ فضل الله؟
هناك هجوم على الخميني والخامنئي وغيرهما، وهذا يُمكن أن يُفهم ضمن سياق سياسي، لكن في المعادلة العراقية هل هناك إنصاف للسيستاني؟
أين الطوسي، المجلسي، الخوئي، الآملي، الحكيم الأب، من الإشارات الإيجابية؟
ثمّة سخرية وإهانة للطم والتطبير، هل هناك نقد ولو موضوعي تجاه الدرباشة الصوفية في التكيات؟ أو المواليد الدينية؟
الطبقة الشيعية الملأى بالأخطاء، تستحق النقد العنيف، لكن: أين الآخرون منه؟
لديكم مشكلة مع قادة الحش…د، أين إنصافكم لشهدائه المحررين؟
لماذا الكردي الذي يفرز معارضته لمسعود بارزاني يفرزه عن الملا البارزاني الأب، ومن يعارض قوباد طالباني يفرزه عن والده طالباني الأب، بينما المشكلة مع مقتدى الصدر هي مشكلة مع أبيه، ومع المالكي هي مع محمد باقر الصدر، ومع الحكيم هي مشكلة مع والده وعمّه وحتى جدّه؟
لماذا هذا الأمر يشمل حتى أكلة القيمة، ولا تُشمل الدليمية والدولمة باللبن الكردية؟
لدى الشيعة والسنة والكرد والتركمان، عناصر كاملة من قتلة وضحايا وأبرياء ومجرمين وسارقين وأمينين وعظماء وتافهين، فهي جماعات عملاقة ذات بعد تاريخي متسع، ومَن يرصد المشهد عليه أن يرصد الجميع، لكن الضآلة أمام الآخر (وثمة مَن يتضاءل من السنة أمام الشيعة بذات المعادلة) تكوّن نسقاً عجيباً من احتقار الذات، وحين يكون هذا النسق ثابتاً تجاه أكبر جماعة بشرية في العراق جغرافيّاً ومذهبياً، فإنك تحطم الدولة أيضاً.
هذا التقزّم وإثبات الولاء هو نسق مُنتِجٌ لاعتداء الآخرين على السنة والكرد والغربية أيضاً، لأنه سيجد هجوماً من طرف واحد غير متوازن، فسيستدعي “الردع” الإعلامي، ويكون ذلك سلباً تجاه السلم المجتمعي، وإثارة النعرات.
لا خير بمَن يبيع أهله، لا خير بمَن يشعر بالعار من أصله، والتراب يعثّر مَن يُنكره، ومَن ليس له جذور يطيّره أي عابر بمجرّد “زيج”، ولن يحتاج لعاصفة أصلاً.
ريح مسودنة، وبيها المعمرة تطيح
وانت عويد حلفة منين الك سبّاح؟
الجنوبي العظيم عريان السيد خلف.