غداء العباس وفكتور جارا
نعيم عبد مهلهل – كاتب عراقي
في 11 سبتمبر عام 1973، قاد الجنرال التشيلي بيونيشيه انقلاباً عسكرياً من نتائجه ثلاث فواجع جلبت لنا الحزن والألم نحن المعلمون في مدرسة البواسل التي تقع في واحدة من قرى الأهوار.
الفواجع الثلاث هي مقتل الرئيس الشرعي لشيلي سلفادور اللندي الذي دافع وإلى آخر لحظة عن القصر الرئاسي، وتم اغتياله بعد أن نفد العتاد من بندقيته التي كان يشاغل بها جنود بيونيشيه من إحدى نوافذ القصر.
الفاجعة الثانية هو اغتيال فكتور جارا، المدرس والمسرحي والمغنّي والشّاعر والنّاشط في الحزب الشيوعي التشيلي، عندما كان متوجّهاً إلى عمله في الجامعة التقنيّة في سانتياغو. وحين بدأت الأخبار بالتتالي، بقيَ في الجامعة يغنّي مع طلّابه.
صبيحة الثاني عشر من أيلول سبتمبر، اعتقل جارا من هناك، ونقل مع حوالي خمسة آلاف آخرين إلى استاد تشيلي الرياضي، المسلخ المفتوح الذي رقص فيه اليمين التشيلي على آلام الاشتراكيين. وهناك، ضُرب جارا وعذّب، إلى جانب الآلاف لأربعة أيام، لكنّه لم يتوقّف عن الغناء. وعندما كسرت يداه طلب منه بسخرية أن يعزف على غيتاره، فغنّى بتحدٍّ أغنية حزب أيّيندي الشهيرة: سننتصر سننتصر. ويقال: إن جسد جارا تلقى 44 رصاصة من بنادق الجنود الذين اغتالوه. والثالثة وفاة الشاعر الكبير والحاصل على جائزة نوبل بابلو نيرودا، صاحب المذكرات الرائعة (أشهد أني قد عشت) والتي يعود إليها الفضل أيام السبعينيات بإغناء موهبتنا بمزيد من الطاقة النثرية، خاصة في القصة التي يرويها حين كان طفلاً وتعرض للاغتصاب من قبل فتيات جميلات توسدن معه عشب الشوفان البارد ومارسن معه أول متعة ذكورية مع إناث يتلقاها أصغر طفل في العالم، وقد مات حزناً وكمداً لاغتيال رفيق دربه سلفادور اللندي..
عند دموع فكتور جارا تختلط دموعنا يوم كنا نجتمع في مساءات الهور أمام صرائف مدرستنا، وقد ودعت مسجلات الكاسيت التي معنا أغاني نجاة ووردة وزهور حسين، وحلَّ مكانها صوت الفنان العراقي جعفر حسين وهو يشدو مرثياته الحزينة من أجل شيلي وفكتور جارا، وأتذكّر منها إلى اليوم تلك الأغنية الرائعة التي مطلعها:
(في شيلي ممنوع أن تبكي أن تضحك
مسموح أن تسقط في الشارع…)
وقتها كان الطيب شغاتي يشاركني الحزن بالرغم من أنه لا يدرك تفاصيل ما يحدث، وهمس لواحد من المعلمين: أبو مَنْ مِنَ المعلمين توفي؟
فرد أحد المعلمين الممتلئ يسارية وكرهاً للنازية قائلاً: لقد مات اللندي ونيرودا وجارا.
رد المسكين وبفطرته: ومن أي الحمائل هؤلاء.؟
قال المعلم: من حمائل الحرية.
ومن يومها تشكلت أضواء الفهم لدى شغاتي، وربما دموعه التي سكبها معنا على فكتور جارا دفعته ليتعلم، ويزداد شغفاً بسماع أغاني جعفر حسن. لقد تخيل معنا تلك اللحظة المأساوية لموت المغني.
واليوم ودموع فكتور جارا تغسل ذكريات تلك الحماسة الثورية التي كانت تسكننا ببراءة الولاء للحرية التي اختفى الكثير من عواطفها ودوافعها بفعل حوت العولمة، أتذكّر صوت فكتور جارا الذي كان يغني بصوته الإسباني الذي كنا لا نفهمه، ولكننا كنا ندرك معناه…
أما شغاتي، فقلما ينسى 11 سبتمبر، وقد أجّل الاحتفاء به عاماً واحداً فقط، حين صادف في هذا اليوم ذكرى مقتل الإمام العباس (ع). قال: بالرغم من أن الاثنين ثوريان، لكن أم مكسيم تقول: هذا اليوم غداء العباس قبل أي شيء..